أدستور جديد.. أم نظام مافيوي؟!

قد يكون الدستور الديمقراطي الأفضل الذي يحدّد العلاقة بين الحاكم والمواطن في لبنان، هو إدراك زعمائنا واقتناعهم ان لهم علينا حقا ما داموا هم ينفذون الدستور ويعملون بموجبه، أما حين يقومون بعكس ذلك، فلن يكون لهم علينا أمرة.
ما من شك في أن لبنان يحتاج إلى دستور جديد حضاري ولائق، أسوة بدساتير الدول المتقدمة، وتماشياً مع متطلبات العصر والتقدم الحضاري واللحاق بركبه في العالم. دستور جديد يقلب المقاييس، يكرّس نطاماً وطنياً حقيقياً يكون الولاء فيه للوطن لا للسياسة أو للزعيم السياسي. نحتاج إلى دستور وطني لا طائفي، دستور واضح ودقيق، ومفهوم كالأرقام المجردة، لا لُبْس فيه، لا يحتاج إلى التفسير ولا يحتمل التأويل، بعيداً عن كل الاعتبارات المناطقية والطائفية، مع حفظ حقوق جميع الطوائف، مفعّلاً علاقة المواطن بالدولة وبمؤسساتها الرسمية، مركزاً على أن جوهر الأخوّة الإنسانية يكمن في الإنتماء الوطني البعيد عن الإنتماء الديني، لاغياً مسألة العُرف المعتمدة والمتداولة بين السياسيين، هذا «العُرف» الذي لم ينصّ عليه اي دستور أو قانون، مكرّساً مرجعية واحدة وحَكَماً واحداً في البلد، تعطى له سيادة حقيقية في الإدارة والتوجيه نحو إصلاح سياسيّ حقيق،ي وتفعيل قانون حرّ نزيه، بغضّ النظر عن الطائفة أو المذهب أو الدين… حيث كثُر من يؤجّج للفتن في البلد بسبب غياب القانون ودولة المؤسسات المعتمدة على النخب المختارة، وتطبيق فصل السلطات.

نحتاج إلى دستور يشدّد على أن قيمة الإنسان كإنسان أرقى وأسمى من انتمائه للعصبيات الابتدائية، وأننا جميعاً متساوون في حقوقنا وواجباتنا. الحلّ الوحيد للتخلص من التعصّب يكمن في إقامة دولة مدنية لا يرتّب فيها الدين حقوقا سياسية، ليست ملحدة ولا معادية للدين، لكنها تحترم أديان المواطنين جميعا بلا تفضيل ولا محاباة، دولة القانون التي تعترف بحقوق المواطنين جميعا بغضّ النظر عن لونهم وجنسهم ودينهم… المطلوب وضع دستور جديد من خلال الدعوة الى طاولة حوار شامل يتبناها إختصاصيون وتشريعيون يقومون بوضع نصوص دستورية جديدة راقية ومتطورة، يجلسون الى جانب السياسيين المتطيّفين الذين لا نحبّذ نفوذهم والذين من الصعب عليهم تغيير معتقداتهم، نصوص تستأصل مفهوم «الاستلاب» أو «الاغتراب» المتجذّر في أعماقنا، والذي يحدّد هوياتنا العديدة المأزومة والأهواء التي تثيرها وانحرافاتها القاتلة(1)… تشريعات تكرّس حفظ حقوق الطوائف ووحدة لبنان والاختلاط السكاني – على عكس الحاصل في بعض المناطق- كما تعزّز الزواج المختلط وتقرّ الزواج المدني…

ألم يحن الوقت للاستفادة من دروس الماضي والاتّعاظ مما سبق؟ ألم يحلّ أوان الأخذ بمقولة الدكتور والباحث أنطوان مسرة في كتابه: «النظرية العامة في النظام الدستوري اللبناني» حين يقول: «نبلغ سن الرشد السياسي بعد سنوات من الحروب اذا عرفنا وتعلّمنا وادركنا ما نستقر عليه، وما يتمتع بدرجة عالية من الثبات وما هو المتحوّل، وما هي مجالات التغيير». (2)
رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي يلتزم الصمت بعد أن ضاعت محاولاته لتشكيل الحكومة على مدى خمسة أشهر هباء، بينما يقيم رئيس حكومة تصريف الأعمال في بلده «الأول» منذ أربعة أشهر تاركا بلده «الثاني» يتخبط في مشاكله وهمومه، في الوقت الذي أمسكت لجنة الإعلام أول خيط حول الواقعة التي حصلت في وزارة الاتصالات منذ أيام قليلة، بعدما أكدت المستندات وجود شبكة خلوية لبنانية ثالثة مسجلة في الاتحاد الدولي للاتصالات باسم شركة «أوجيرو تيليكوم»، ما يدفع إلى طرح سيل من الأسئلة حول هذه الشبكة، مَن يديرها ولمصلحة مَن، ومَن عيّن مجلس إدارتها، ومَن قام بتسجيلها، وأين إيراداتها ولمَن تتبع وكم هي سعتها؟ وهل هي فعلاً 50 ألف خط كما صرّح الوزير نحاس أم اكثر من ذلك؟
هذا ما نعرفه، أما ما خفي فقد يكون أعظم!

وبعيداً من هذا «الخواء» السياسي والفراغ الحكومي الحاصل، خرج إلينا صوت البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، منذ يومين، ليعطينا نفحة أمل جديدة في إمكان بناء وطن، عندما طالب بضرورة تغيير نظام «الطائف» المعمول به منذ العام 1990. مطالبةٌ تعدّ بمثابة خطوة شفهية أولية ودعوة الى فتح باب جديد للحوار والتفاؤل ستؤيده الأكثرية الجديدة من دون أدنى شك. إذ يبدو أن إعادة النظر بالطائف أصبحت ضرورة من ضرورات الوضع اللبناني الراهن، هذا الطائف الذي يعتبر في الأساس «ملحقاً» بالدستور ووجد من أجل وقف فتيل الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان منذ بدايات السبعينات.

نحن لا ننظّر أو نسوّق لمضمون جديد يصعب تحقيقه… نحن نتكلم عن مستقبل بلد وأبنائه في ظل نظام سياسيّ يفسد ولا يصلح؛ إيماناً منا بأن الـنظام الطائفي هو الذي نجح ههنا في إسقاط الدولة… كما الشعب. هذا الشعب الذي بدأ منذ أشهر قليلة مضت بالتظاهر بهدف إسقاط هذا النظام السائد في لبنان، والمطالبة بإيجاد نظام بديل يتمثل بدولة علمانية مبدأها الأساسي فصل الدين عن الدولة. أين أصبحوا الآن بعدما كان عددهم قد وصل الى 35 ألف متظاهر؟ أين هم من حكامنا الفاسدين؟ أين هم من مطالبتهم بقيام الدولة وبناء المواطنية الصحيحة وإرسائها على أسس عادلة وسليمة تعطي كل ذي حق حقه بعيداً عن المحسوبيات؟ أين هو هذا المواطن اللبناني الذي يدّعي العلم والمعرفة والتفوق على أقرانه، والذي يثبت يوماً بعد يوم أنه اكثر «الناس» تبعية وخضوعاً لمرجعياته الطائفية والمذهبية؟

كلنا يعلم أن الطائف يحوي الكثير من الثغرات، فضلاً عن أنه لم يطبّق بشكل جيد، وهي الآن فرصة لإعادة وضع نظام جديد، تريده كل طائفة مفصلاً على قياس مصالحها الطائفية الخاصة والضيقة، فهل يقودنا هذا الواقع الى استنتاج مفاده أن هذا هو السبب الذي يحدو بالأطراف كافة إلى عرقلة تشكيل حكومة جديدة؟
مفتاح الحلّ هو بيد الشعب، و«كما تكونون يُولّى عليكم»… «إلى طائف جديد» هي فرصة ثمينة قد تتيح لنا عدم الانزلاق في براثن المافيات السياسية… وإلا فلنعلنها «دولة مافيات».

السابق
قطوعٌ جديد الأحد المقبل فماذا عن المعالجات؟
التالي
خريف لبنان والربيع العربي