الضاحية وطريق الجديدة:معارضون كثر ومؤيدون بخجل

ذُهل مازن، وهو مسؤول دمث في تيار محلّي ، من جواب موسى قاسم، فانبرى يعبّر عن ذهوله بابتسامات ماكرة وجمل اعتراضية: «يا رجل، تريد المشاركة في تلك المسيرة التي شارك فيها شباب من «حركة أمل؟»، معقول؟».
قطّب موسى، الميكانيكي وابن طريق الجديدة منذ ثلاثين عاماً، حاجبيه مجيباً «شبيبة الحركة؟ كلا، طبعاً لن أشارك». انفرجت أسارير مازن عقب إجابة موسى، وحاول «تنقية» الجواب، فقال «طيّب يا موسى، لنفترض أن الشبيبة لن يشاركوا في المسيرات، ما رأيك في بلد علماني؟».

مرّت دقيقة وموسى مطرقاً رأسه يفكّر في الجواب، فأدرك مازن أن موسى لا يعرف معنى العلمانية. قال بتململ «العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة»، فعلّق موسى متسائلاً: «وفي حال اعتمدت في لبنان، هل تبقى أبواب المساجد والكنائس مشرّعة؟ وهل أبقى محافظاً على ديني؟». هزّ مازن برأسه.

أخذ الميكانيكي نفساً عميقاً، موجهاً بصره تجاه المسؤول، كمن يطلب المساعدة في الجواب، غير أن مازن اكتفى بمداعبة السيجار الفاخر بيده، متجاهلاً طلب العون. «هل يبدو السؤال صعباً عليك يا رجل؟ أنت مع فصل الدين عن الدولة، أم لا؟».
ابتسم موسى، وأجاب: «لماذا لا نتعامل مع بعضنا البعض كما يتعامل المواطنون مع بعضهم في أوروبا؟ حبذا لو نتغلّب على الطائفية في لبنان. أنا كمواطن أكترث لمهنتي. أبحث عن سيارة معطّلة، وأحلم بحياة هادئة في بلدي». انفجر مازن من جواب الميكانيكي، واقترب منه قائلاً «أصبحت ملاكاً الآن؟ أين جناحاك؟ هيا، احلم يا حبيبي. احلم».

كرجل يحمل صندوقاً حديدياً مقفلاً، بدا العمّ خالد متشبثاً بأجوبته: «هذا البلد لا يقوم ولا يحيا إلا بنظامه الطائفي، لأنه وُلد هكذا. غذاء لبنان هو الطائفية. ومن يرد الثورة، فعليه أن يعرف أن هناك من ثار من قبل ونجح: ثورة الأرز». كان العمّ السبعيني ينتظر وصول المختار طارق السمّاك، فيما كان مازن منصتاً لأجوبته مبتسماً.

باليد الأخرى، كان السبعيني «يحمل» صندوقاً آخر، استفاض في سحب الأجوبة من داخله، متمنياً أن «يسود الحكم العادل في لبنان. أنا لم أكن أكترث لفريقي 8 أو 14 آذار. لكنني أصبحت الآن مع فريق 14 آذار حتى الموت، لأنه صنع ثورة الأرز، أما الباقون فهم محسوبون على دول».
عاد ابن طريق الجديدة للحديث عن حملة إسقاط النظام الطائفي، من النافذة التي فتحها، قائلاً أنه من الصعب أن يتعاطف معها، ولو «استطعت التواصل معهم، لقلت لهم أن يتوقفوا من الآن، فهم لن يصلوا إلى أي نتيجة، مهما تطورت الظروف. هذا بلدنا ونعرفه أكثر من الشباب المتحمّس».

كان في مكتب المختار شاب عشريني جالس على كنبة جلدية، يستمع إلى حديث السبعيني. سأل: «ماذا عن الحروب الأهلية؟ يا عم، أليست الطائفية هي السبب في نشوبها؟»، فأجاب العمّ في خلال جزء من الثانية: «كلا. طبعاً كلا. التدخلات الخارجية هي السبب». استغرب الشاب جواب السبعيني، فأردف: «والدول تستغل التناحر الطائفي، ونحن نقع في الفخ». زمّ العمّ شفتيه ورمق مازن بنظرة خاطفة، ثم مرر بصره إلى محدثه وقال «لكل فريق في لبنان دولة محسوب عليها. هل تظن نفسك اخترعت البارود؟ الطائفية غذاء لبنان. نقطة، انتهى».

وصل المختار، محيياً العمّ خالد والضيف ومازن. شرع في إنجاز بعض المعاملات المحتشدة على منضدته، متأملاً كل ورقة بخبرته المتكسبة منذ اثني عشر عاماً.
بدا صندوق المختار أكثر انغلاقاً من السبعيني: «من الصعب أن نتخيل لبنان من دون تركيبته الطائفية. لن ينجح أحد باجتثاثها. لبنان ليس مصر، لأن هناك لوناً واحداً، ونسبة قليلة من الأقباط. اللون الواحد ثار على حاكمه، لكن هنا، ثمة ألوانا كثيرة».
اعتدل مازن في جلوسه، مبعداً السيجار عن يده، وأخذ ينصت لحديث المختار: «أهالي طريق الجديدة ليسوا مهتمين بإسقاط النظام الطائفي، فالطائفية هي التي تؤمن الوظيفة لابن الطائفة، وليس الدولة. الطائفية مغروسة في طعام وشراب ومأكل وملبس اللبناني. من يستطيع أن يحذفها من الـ«ميموري» (الذاكرة) فجأةًً؟».

استغرب الضيف، واسمه عبود، سؤال المختار. اغتصب مازن ابتسامة ماكرة، فيما كان المختار يستعد لاستكمال ما كان يقول: «ما إن أُعلن عن الحملة، حتى بدأ رئيس مجلس النواب نبيه برّي يشجعها، كرسالة واضحة للمسيحيين من جهة، وكي يثبت أنه ضد الطائفية من جهة ثانية. وفي الحالتين، فهو لن يخسر شيئاً».

في الجهة المقابلة للطريق الجديدة، كان سمير السبع ممسكاً بسلة مصنوعة من القش، عندما سأله جميل سليم، وهو صاحب حانوت صغير في الضاحية، عن رأيه بإسقاط النظام الطائفي في لبنان.
هزّ سليم كتفيه، ورفع السلة كمن يرفع الأثقال الحديدية في ناد رياضي، وقال: «تماماً كرأيي في تعبئة هذه السلة بالمياه. لن تحمل المياه، لأنها مثقوبة من كل الجهات».

أُعجب صاحب الحانوت بتشبيه زبونه «الآدمي»، كما يحلو له وصفه. أزاح العمّ الستيني النظارات عن عينيه، وتناول جهاز تحكم التلفاز بإحدى يديه. وفيما كان ينتقل به من محطة تلفزيونية محلية إلى أخرى، أردف معلقاً: «كيف يسقط نظام طائفي تدعمه كل وسائل الإعلام في الصباح والمساء؟ فمع انعدام ثقافة المواطن الفردية في لبنان، صار منبع الثقافة مستمداً من التلفاز، الذي تبث محطاته المحلية يومياً أخباراً تساهم في تكريس الطائفية».

وُلد الرجل في منطقة برج البراجنة، من عائلة متوسطة الدخل، ولم ينل فرصة استكمال تعليمه المدرسي. شب على قضاء وقته في الحانوت الذي ورثه من والده، وشاب بعدما تزوج أولاده وهجروا البلاد إلى الغرب.
التقط العمّ نظارته، محدقاً بفتاة عشرينية دخلت إلى الحانوت. رحّب بها معرفاً عنها بـ«ابنة فلان». سألها عن إسقاط النظام الطائفي، فأجابته بسؤال مضاد «تعني إلغاء «حزب الله» من الوجود يا عمّ جميل؟ أي إسقاط السلاح كما يروّجون؟ ليس هناك من يوافق هذا المطلب إلا العميل لإسرائيل. أعطني نصف كيلو جبن بلغاري لو سمحت».

انتظر الستيني خروج الفتاة، وقال هامساً أن «فلاناً»، أي والدها، منظّم في حزب محلي، أما الفتاة فهي طالبة في إحدى الجامعات. هز الرجل برأسه يمنةً ويسرة، متأسفاً من جواب الفتاة. قال «أصعب ما في الأمر أن جيل الشباب الجديد لا يريد أن يصدّق أننا كنا على خطأ، وأن النظام الطائفي هو الذي جعلني أعيش في هذا الحانوت، كما حتّم على شباب كثيرون أن يحلموا بابتياع شقة، أو تأمين وظيفة».

وقف علي ب. وأحمد ز. يتبادلان أطراف الحديث، بمحاذاة صورة عملاقة للرئيس نبيه برّي مذيلة بعبارة «يا ويلنا من بعدك» في منطقة الشياح. علي، الموظف في إحدى الشركات التجارية، مناصر لـ«حزب الله»، أما أحمد فمحسوب على «حركة أمل»، وطالب في إحدى الجامعات الخاصة.

كان علي منشغلاً بإطلاع صديقه على تفاصيل وظيفته الجديدة، التي «فاز» بها بعد واسطة من أحد نواب الحزب، بينما بدا أحمد مرتبكاً بسبب تأخر اتصال هاتفي من مسؤول في الحركة، سبق أن وعده بوظيفة مشابهة في مطار رفيق الحريري الدولي.
شارك أحمد في مسيرة إسقاط النظام الطائفي الأولى، والتي عرفت لاحقا باسم «مسيرة الأحد الماطر». ذكّر الشاب صديقه بـ«ذاك اليوم، عندما توجه معي الشبيبة إلى المسيرة، وما زالوا حتى اليوم ينفجرون ضحكاً، ما إن يتذكروا أنهم شاركوا في تلك المسيرة الحماسية، والتي بدت كأنها مفرقعات نارية، أمام رصاص الثورات العربية».

بدا علي مزهواً بـ«اعتراف» صديقه، فقال: «أخبرتك أنها حملة شباب لا يعرف ماذا يريد، ولا يعرف طريق الوصول. أنظر ماذا حلّ بهم اليوم. اختفوا، لأن النواة كانت فارغة منذ البداية. تخيّل لو أنهم نجحوا، ماذا كان قد حلّ بنا؟ كنا سنتحاشى السكارى في الطرقات في الضاحية، ونخاف على حجاب شقيقتي وشقيقتك، هذا غير مصير السلاح الذي حرّر لبنان».

حاول أحمد أن يعلّق على رأي صديقه، من دون أن يسحب بساط زهوّه من تحت قدميه، فاستهل رأيه بإثناء «معك حق»، مختتماً: «لكن، رغم أنني لا أستطيع أن أرى رئيساً لمجلس النواب غير الأستاذ (برّي)، فإنني أعتقد بأن الطائفية هي سبب خراب لبنان. غير أن البديل أفدح، والدليل أن منظمي الحملة غرقوا في خلافاتهم الشخصية، فكيف يعتقدون بأنهم يستطيعون النجاح، واجتثاث الفكر الطائفي من نفوس اللبنانيين؟».
جعفر العطّار

السابق
منيرالمقدح: نسعى لنصب خيم على طول الشريط الحدودي والبقاء فيها لحين تحقيق العودة
التالي
حفل جمعية HEART BEAT