الانتفاضة الشعبية في سوريا: المستبعد والممكن

فيما تتركز كل الانظار في الاشهر القليلة المقبلة على المواجهات المستمرة بين المتظاهرين والنظام السوري، قد يأتي التحدي الاساسي من داخل النظام نفسه، اي من القوى الأمنية.

فيما تواجَه التظاهرات الحاشدة غير المسبوقة بقمع شديد من النظام في مختلف أنحاء سوريا، كثيراً ما يُطلَب من الباحثين والأكاديميين التعليق على سؤال يكادون لا يعرفون شيئاً عنه: ما الذي سيحصل؟ إصرار وسائل الإعلام وسواها على طرح هذا السؤال لافت، ولو كان مفهوماً، لا سيما أن لا أحد من المراقبين المتخصّصين في الشأن السوري توقّع في الأصل حدوث الاضطرابات الراهنة. بيد أن المستقبل القريب قد لا يكون عصياً على الفهم بالكامل. بالفعل، إذا كان في الماضي القريب والأبعد أيّ دليل عن المستقبل – إنما مع إضافة مجموعة من التنصّلات التي لا بد منها – يبدو مستبعداً حدوث تغيير للنظام يقوده الشعب في سوريا. بدلاً من ذلك، غالب الظنّ أن الاستقرار سيتزعزع بصورة مستمرّة، وستقع مواجهة بين المحتجّين والنظام، مما يولّد مأزقاً بين القوى المتناحرة، وإصلاحات مجزّأة من المحتّم أن تحبط الآمال بتحقيق تغيير جوهري، وعلى الأرجح أنها ستثير مزيداً من الغضب والعنف. لكن فيما ستتركّز كل الأنظار في الأشهر القليلة المقبلة على المواجهات المستمرّة بين المتظاهرين والنظام، قد يأتي التحدّي الأساسي من داخل النظام. ففي الماضي، كان الاعتماد الشديد على القمع خارج نطاق القضاء في سوريا يدفع بالقوى الأمنية وشبه العسكرية إلى الانقلاب على النظام نفسه.

منذ منتصف آذار، وبتحفيز من انتفاضات حاشدة وغير مسبوقة أيضاً في تونس ومصر، قام آلاف السوريين العاديين بما لم يكن في الحسبان: نزلوا غاضبين إلى الشوارع، مطالبين أولاً بالإصلاح، لكنهم راحوا يطالبون أكثر فأكثر بإطاحة النظام ووضع حد لثمانية وأربعين عاماً من ديكتاتورية البعث. والاحتجاجات التي صُوِّرت في البداية بأنها مجرّد تذمّر محلي الطابع يعبّر عن مشاعر غضب قبلية في درعا، توسّعت وعمّت مختلف أنحاء البلاد وتشمل الآن حمص، ثالث أكبر مدينة في البلاد، وحتى ضواحي دمشق. ويبدو أن المناطق الكردية في الشمال الشرقي انضمّت أيضاً بزخم كامل إلى التظاهرات. ردّ النظام عبر اللجوء إلى العنف، ولم يتردّد في نشر الدبّابات والقنّاصين، فقتل نحو 750 مدنياً بحسب التقديرات واعتقل الآلاف. صور الاحتجاجات والممارسات الهمجية للقوى الأمنية التي تُبثّ سراً من سوريا عبر موقع "يوتيوب" الإلكتروني في شكل أساسي، مثيرة للدهشة والصدمة في آنٍ واحد. على الرغم من أنه يستحيل التأكّد من دقّتها، تترك انطباعاً بأنه على شيء ما أو أحد ما أن يستسلم.
تشير الأعداد المتزايدة من المتظاهرين إلى إنهم لن يبادروا إلى الاستسلام. والنظام بدوره قطع وعوداً بالإصلاح السياسي كانت لتثير الحماسة في أزمنة أخرى. لكن المتظاهرين والسوريين العاديين على السواء يعرفون تماماً أن عملية "الإصلاح" الأزلية في بلادهم التي تعود إلى "الحركة التصحيحية" التي أطلقها حافظ الأسد في مطلع السبعينات والتي أعاد ابنه بشار إحياءها وصوغها منذ عام 2000، سوف تعيد تكوين الحكم السلطوي وإنعاشه وستجعله أكثر قدرة على الصمود بدلاً من إطلاق تغيير فعلي. ولذلك تستمرّ التظاهرات.

بيد أن التظاهرات الحاشدة، أياً يكن حجمها أو حدّتها، ليست كافية لإسقاط النظام. أبعد من الرومنطيقية الثورية التي يجري التركيز عليها في السياق التونسي والمصري، يبدو أن العملية الانتقالية التي لم تكتمل بعد في هذين البلدين تشير إلى عاملَين مسهِّلَين أساسيين ومترابطَين: موقف القوّات المسلّحة وقدرة المتظاهرين على التنظّم كما يجب لإقناع قادة الجيش بدعمهم أو على الأقل بالابتعاد عن النظام ورموزه الأساسيين. هذان العاملان غائبان بكل وضوح في سوريا، تماماً كما تفتقر إليهما عمليات انتقالية أخرى متوقِّفة أو متعثّرة في المنطقة، ولا سيما في البحرين واليمن.

أولاً، بسبب عقود من القمع الشديد والمزايدات الأيديولوجية، لا يبدو أن هناك قوى معارضة منظَّمة جدّياً أو حتى فاعلة هامشياً في سوريا. ولذلك، فإن المحاولة الأخيرة التي قام بها ناشطون معارضون من داخل سوريا وخارجها للتعبير علناً عن مطالبهم من النظام السوري كانت حافلة بالتناقضات والتنافر ونواقص أخرى، ولم تترك وقعاً لدى أحد، ولا حتى المتظاهرين. كانت الردود الشعبية التي صاغتها تجمّعات محلّية نُظِّمت على عجل، بما في ذلك في درعا، أكثر وضوحاً وتماسكاً في التعبير عن مطالبها من النظام، لكنّها لا ترقى إلى مستوى البرنامج الوطني.

في هذه الأثناء، استمرّ بعض الناشطين المعارضين المخضرمين، على غرار ميشال كيلو، في التزام شعارهم الإصلاحي، أو اعترفوا، كما فعل بتواضع الناشط الشيوعي المتقدّم في السن، رياض الترك، بعجزهم عن توجيه التظاهرات التي ينظّمها شباب البلاد أو قيادتها. قد لا يؤثّر ذلك في الاحتجاجات في ذاتها، لكنه يسلّط الضوء على فشل المعارضة في تحقيق اختراقات في القوّات المسلّحة، وفي إقناع الضبّاط والقادة العسكريين، عبر ركوبها موجة التعبئة الشعبية، في اتّخاذ مواقف مؤيّدة لتغيير النظام. والدعوة العلنية التي وجّهتها "المبادرة الوطنية للتغيير" إلى شخصيات عسكرية بارزة لدعم الثورة هي خير دليل على أن المعارضة فشلت في بناء قنوات سرّية تقودها إلى القوّات المسلّحة لنقل تلك الرسالة إليها.

ثانياً، من المستبعد جداً أن تؤدّي القوّات المسلّحة السورية دوراً داعماً للمتظاهرين. فعناصر الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، إلى جانب القوى الأمنية، متمرِّسون جيداً في القتال ويكنّون ولاء مطلقاً للنظام. ويُعرَف عنهم أنهم يُرسَلون لقمع الاعتراضات من دون أن يطرحوا أيّ أسئلة. قد يبدي البعض في القوّات المسلّحة النظامية امتعاضه، كما تشير التقارير غير المؤكَّدة عن الانشقاقات ورفض التقيّد بأوامر إطلاق النار. لكن نظراً إلى أن هذه القوّات النظامية تعاني من الإهمال منذ سنوات كثيرة، فهي لا تضاهي القوّات الخاصة المدجّجة بالسلاح التي يقودها في شكل أساسي ضبّاط علويون بينهم أفراد من عائلة الأسد الموسَّعة. سوف تلقى التوقّعات، لا بل التهديدات التي يسوّق لها النظام نفسه بحماسة، بأنه من شأن سقوط النظام الحالي أن يؤدّي إلى عنف على الطريقة العراقية، رواجاً لا سيما في صفوف هذه القوّات الخاصة لأنها ستخشى الانتقام الشعبي من تجاوزاتها القمعية الحالية والسابقة أيضاً.

لا يعني هذا أن النظام سيستمرّ من دون أيّ تغيير. على العكس، في هذا السيناريو، قد تصدر الضغوط من أجل التغيير (غير المرغوب فيه) عن الأجهزة الأمنية، والقوات الخاصة بالذات. فكما لاحظ دانكوورت روستو بالنسبة إلى المنطقة ككلّ في مطلع الستّينات، يؤدّي اعتماد الحكومات المتزايد على القمع العسكري إلى تطوّر شديد في مهارات الجيش في ممارسة الإكراه الداخلي، مما يجعل بدوره هذه الحكومات "هدفاً أكثر هشاشة وإغراء" للانقلابات العسكرية. في ماضي سوريا، غالباً ما كانت محطّات القمع المفرط تؤدّي إلى تضخيم الثقة بالنفس لدى عناصر أساسيين في عنف الدولة، أو تغذّي لديهم شعوراً ملحّاً بوجوب مكافأتهم، أو تثير مخاوف لدى أزلام النظام من تصفيتهم في مرحلة لاحقة عندما يحاول النظام العودة إلى حكمه السلطوي المعتاد.

أياً تكن الطبيعة الدقيقة لهذه الدوافع، حصلت الانقلابات والهجمات الداخلية على النظام أكثر من مرّة في ظروف مماثلة، ولا سيما عندما شنّ رفعت الأسد محاولته الانقلابية الفاشلة عام 1983 عقب دوره البارز في قمع الإسلاميين العنيف بين 1980 و1982، وخصوصاً في مدينة حما. انطلاقاً من هذه الخلفية، تكمن المفارقة في أن قرار النظام الأخير إلغاء محكمة أمن الدولة العليا التي وصفها ديبلوماسي غربي بأنها "مركز المعالجة" لقانون الطوارئ الذي ألغي أيضاً، قد يرتدّ بنتائج عكسية بحيث إن القمع الشديد الخارج عن نطاق القضاء سينتشر من دون أي حدود في حين أن منفّذيه سيزدادون أهمّية.

وقد يطمح أزلام النظام إلى الحصول على مكافآت تقديراً لدفاعهم عن النظام في وجه التحدّي الأكثر خطورة له منذ الثمانينات على الأقل، أو قد يسعون في الوقت نفسه إلى حماية أنفسهم من محاولات النظام المستقبلية للتخلّص من عناصره البغيضين جداً الذين سيُعتبَرون عندئذٍ غير جديرين بنظام "يسير على طريق الإصلاح". يجب التنبّه جيداً للخطوات التي سيقوم بها في المستقبل أولئك الذين ترد أسماؤهم الآن على لائحة الاتّحاد الأوروبي التي تضم ثلاث عشرة شخصية سورية يُعتقَد أنها تقود القمع الحالي للانتفاضة في سوريا، والتي وُضِعت في وقت سابق هذا الشهر بهدف إخضاعهم للعقوبات.

ترجمة نسرين ناضر – النهار

السابق
اللواء: الصدام الأميركي – الإيراني يُعطِّل تأليف الحكومة
التالي
صور احتضنت سباق فينيقيا الدولي