الوحدة الفلسطينية و شرق أوسط جديد

كان رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على اتفاق حماس و فتح في القاهرة سريعاً و متوقعاً: «على السلطة الفلسطينية أن تختار إما السلام مع إسرائيل أو السلام مع الحماس. لا مكان للسلام مع الطرفين»، في حديث له بلقاء متلفز مباشرة بعد توصل الأطراف الفلسطينية إلى اتفاق تسوية تحت رعاية مصرية في الـ 27 من أيار الماضي.

و رغم محاولات لا حصر لها في الماضي لتجميد نفوذ الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعرقلة محادثات السلام، و شرعنة التملص الإسرائيلي من التزاماتها تجاه الاتفاقيات السابقة، فإن نتنياهو و حكومته اليمينية يحاولان أن يذهب اليوم أن
الفلسطينيين هم وحدهم المسؤولون عن إنهاء سير «عملية السلام» المزعومة. وستستمر الجرافات الإسرائيلية بحرث أراضي الضفة الغربية لإفساح المجال أمام المزيد من المستوطنات غير القانونية، لكن هذه المرة ليس بحجة «التوسع الطبيعي»، و إنما قد تكون حجتهم اليوم أن إسرائيل لم يعد لديها شريك يدعم وجودها، وستكرر الولايات المتحدة و وسائل الإعلام إذاعة هذا المنطق السخيف، و كالعادة، سيكون الفلسطينيون هم من يستحق العقاب على فعلتهم.

لكن، وبصراحة، فاليوم لم يعد لإسرائيل تأثيرها المباشر على الأحداث في المنطقة في ظل هذا المنعطف التاريخي الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط، فحين بدأت الشعوب العربية بالنزول إلى الشوارع ظهر بعدٌ جديد في قضية الصراع العربي
الإسرائيلي. و ما إن تبنت هتافات ميدان التحرير لغة تخاطب كل العرب و تنصر الفلسطينيين، بدا واضحاً أن مصر ستنعتق قريباً من لجام واشنطن السياسي، الذي قسم العرب إلى معتدلين (أخيار) و متطرفين (أشرار).
و ظهرت للملأ أهمية الدور الذي لعبته القاهرة مباشرة بعد أن تصافح ممثل فتح عزام الأحمد و قادة حماس، من دمشق الدكتور موسى أبو مرزوق و من غزة محمود الزهار. أما إسرائيل فقد استعملت اللغة الوحيدة التي تجيدها في هذه الظروف .. لغة التهديد و الترهيب و الوعيد ـ و من ثم أمريكا التي كان رد فعلها سطحياً، و مرتبكاً، وغير واقعي. و بعيداً عن تصريحات الإدارة الأمريكية فقد كان التركيز مسلطاً على السلطة التي تملكها واشنطن على عباس و حلفائها في فتح. ففي مدونتها في الواشنطن بوست كتبت جينيفر روبن بتاريخ 29 نيسان «ستتخذ إدارة أوباما على مضض موقفاً واضحاً من أنه فيما إذا ظهرت حكومة وحدة وطنية مؤلفة من كل من حماس و فتح، كما أعلن محمود عباس، فإن الولايات المتحدة ستوقف معوناتها»
لكن هذا التردد الذي يسود الإدارة لا يشمل جميع من فيها، «الكونغرس شيء آخر مختلف»، كتبت روبن مقتبسة كلام أحد المسؤولين الغاضبين: «الجواب الوحيد المقبول (فيما إذا كان على الإدارة أن تمول الحكومة الفلسطينية الجديدة أم لا) بالنسبة لمعظم الأمريكيين سيكون لا قولاً واحداً»،

و هنا السؤال : ما هو حجم تأثير سياسة لي الذراع هذه، خاصة بوجود دول متبرعة أخرى محتملة؟
لو أن هذا السؤال طرح قبل الربيع العربي و الثورة المصرية بالتحديد، لجاء الجواب مشوباً بشيء من عدم التيقن. فقد أعد عدد كبير من المسؤولين الفلسطينيين أمورهم بناءً على موضوع التمويل المادي.
فما الذي منح الإسرائيليين والأمريكيين حق التحكم بسير العملية السياسية و حتى العلاقات الفلسطينية الداخلية غيرالغياب الفعلي لتوازن سياسي حقيقي في محيط منطقة الصراع. فلطالما رسمت الولايات المتحدة و إسرائيل نوايا «المجتمع الدولي»، و ظلت المنطقة عالقة في تعريفات واشنطن وتل أبيب السياسية لمفاهيم العداوة و الصداقة. لقد كانت عرقلة سياسية من النوع الممتاز لم يستفد منها أحد سوى إسرائيل.
هذه الخلاصة التحليلية ليست وليدة الأحداث الأخيرة فحسب، فمثلاً المغنم الأكبر الذي حصلت عليه إسرائيل من اتفاقية كامب ديفيد في 1979 لم يكن كما ادعوا جلب السلام إلى المنطقة، فالحقيقة أنه لم يكن هناك أي مظهر من مظاهر السلام بعد توقيع هذه المعاهدة، بل كل ما في الأمر أنهم أرادوا تهميش مصر تماماً كونها اللاعب الأكثر قوة في جامعة الدول العربية و تغييبها عن كل القضايا العربية ذات الشأن مع إسرائيل. و غياب مصر عن المعادلة هو الذي سمح لإسرائيل بمهاجمة لبنان مراراً، والتوسع في مستوطناتها، والمضي قدماً في تدمير الأراضي المحتلة.

و الآن عادت مصر، ليس إلى سياقها العربي و انتهى الأمر، و إنما لتبدأ برسم الواقع العربي الجديد.
و لعل توقيع الاتفاق بين فتح و حماس جاء مفاجئاً على صعيد التغطية الإعلامية، و لكنه كان نتيجة متوقعةً في سلسلة من الأحداث التي وسمت البعث الجديد الذي تعيشه المنطقة. أصبح اليوم للشرق الأوسط رأس حربة جديد، بلد عربي قوي و آمن كفايةً للتواصل مع فرقاء عدة ـ الدول العربية، إضافة إلى إيران و تركيا و آخرين.

أما تركيا فهي لم ترحب بالاتفاقية فحسب، بل كانت واحدة من الرعاة الرسميين للتقارب الفلسطيني. وكان وزير الخارجية التركي أحمد دافوتوغلو عنصراً فاعلاً في دفع الوحدة الفلسطينية إلى الأمام. و بالنسبة لموقف إيران، فإن وزير خارجيتها علي أكبر صالحي هتف لهذا الاتفاق «الميمون»، والذي وصفه بـ «أحد إنجازات الثورة المصرية».
كانت رؤية إسرائيل للمنطقة تعتمد على إبقائها منقسمةً سياسياً بأية طريقة ممكنة. وبدون هذه التفرقة ستضطر إسرائيل إلى أخذ موقف الدفاع، و ستغرق أمريكا في وحول إدارة الأزمة. الوحدة الفلسطينية في مصر ما بعد الثورة و المباركة التي نالتها هذه الوحدة من الدول العربية و تركيا و إيران ليست إلا مصدر قلقٍ لإسرائيل. و المقلق أكثر هو صعود مصر كلاعب سياسي قادر على صنع قراراته بنفسه، فإضافة إلى الرعاية و المباركة التي منحتها مصر لقرار الوحدة دون انتظار إذن إسرائيل و واشنطن، يخرج وزير خارجيته الجديد منذ أيام ليدين الحصار المفروض على غزة واصفاً إياه بـ «المخجل» ويتوعد برفعه نهائياً عما قريب.

«تخط مصر اليوم مساراً جديداً في سياستها الخارجية، مسارٌ بدأ فعلاً يهز الرتابة المعهودة للشرق الأوسط، يخطط لفتح الحدود المغلقة مع غزة، واستعادة علاقاتها مع اثنتين من الأعداء الإسلاميين للغرب و إسرائيل، حماس و إيران»، هذا ما كتب ديفيد د. كيركباتريك في نيويورك تايمز في الثلاثين من نيسان المنصرم. في وقت من الأوقات كانت هذه الكلمات غير مسموعة، لكنها اليوم، بفضل عزيمة المصريين والشعوب العربية، باتت القواعد الجديدة التي ستحدد مسار العرب السياسي. و ليس حتى خطاب ناري يلقيه وزير خارجية إسرائيلي ممتعض يمكن أن يقف في وجه هذا المنعطف التاريخي الحاسم.

ترجمة : طارق الحسن- البعث

السابق
اليونان فرصة ثانية لخطة التقشف
التالي
أوهام التدخل الديمقراطي