رحيل الأب سليم: الجنوب يغير وجوهه

رحل صباح امس المطران سليم غزال، او "الاب سليم"، كما يحلو للعديد من محبيه واصدقائه الكثر ان يخاطبوه. رحل إبن بلدة مشغرة الذي وفد من صيدا والجنوب ليسطع في سماء لبنان رسولا من رسل العمل الوطني الاجتماعي. هو الذي كان يشكل تعبيرا عميقا عن انتمائه الديني، تجلّى في هذا الزهد والعطاء المتدفقين وعيا ورحابة وإنسانية خلاقة. هذا الرجل القريب القريب هو أول من عرفت من رجال الدين المسيحيين، وربما الوحيد الذي كنت كلما التقيته منذ الصغر يزداد حبّي له، ويحفر في نفسي، كما في نفوس الكثيرين ممن يعرفونه، صورا جميلة واليفة للحياة وآفاقها ولوجه المسيحية الانساني العميق، كما للوطن الذي لا يمكن ان ينغلق على الجهل المولد للكراهية والعزلة.

في احدى زياراتي له حيث يحب في دار العناية بصيدا، سألته من اين يأتي بهذه الالفة والرحابة التي يتلمسها الجميع في شخصيته؟ فأجاب بتواضع الكبار: "ربما من طفولتي التي عشتها بين اهلي في مشغرة، تلك البلدة المختلطة من مسيحيين ومسلمين، والتي مثّلت بيئة لم تكن العقيدة الدينية سببا للتباعد وسطها، بل ترعرعنا في جو من الالفة والجيرة الطيبة، وفي مجتمع يعيش المسيرة الواحدة. لربما مشغرة اليوم هي غير مشغرة الامس، لكن اقول ان طفولتي هي التي دمغت هذا المنحى في شخصيتي".

لذا ربما عندما بدأ رسالته الكهنوتية، في العام 1959 في صيدا والجنوب، لم يكن لدى الاب سليم صعوبة في التعامل مع المختلفين دينيا. فهو عرف عادات المسلمين وتقاليدهم. وانطبعت مسيرته بهذه الروح التي نمت مع الوقت، ليدخل بعد ذلك في مسيرة العمل الثقافي والروحي والاجتماعي التي ترتكز على احترام الآخر في شخصه، واعتماد لغة الاصغاء والحوار للوصول الى اهداف تخدم مصلحة الجميع.

لا ينسى أحد أنّه دخل المعترك الاجتماعي في "الحركة الاجتماعية" مع الإمام السيد موسى الصدر والمطران غريغوار حداد، ومع الذين عملوا في الحقل الاجتماعي خلال الحرب وكانوا الجسر بين كل الفئات فلم يتطيفوا وواجهوا الفرز السكاني. وفي بداية الحرب، عندما اسس دار العناية في الصالحية (صيدا) لخدمة الايتام والحالات الاجتماعية السيئة: "اردناها ان تكون في خدمة المعوّز بغض النظر عن دينه ومذهبه"، قال.
دائما كان الاب سليم، ورغم المرض الذي ابتلي به منذ سنوات، يضفي جديدا في كل لقاء. ولأنه رجل الحوار كان يردّد في خضم الانقسام الذي نعيشه في السياسة والاجتماع: "ليس الحوار ان يسعى كل واحد لابراز عظمة عقيدته وتفوقها او وجهة نظره، فهذا حوار التجريح لا حوار اللقاء، الحوار الصحيح هو روح وحياة".

بعض محبيه والمعجبين بتجرته الغنية على هذا الصعيد كانوا يرون فيه صاحب رسالة متفردة. والتفرد كرجل دين بين المسلمين والمسيحيين عبّر عن نزعة دينية عميقة وأصيلة حفّزته على هذا الاقبال نحو الانسان كإنسان من دون اي تحجر او انغلاق.

لذا لم تكن مصادفة ان تتسم مسيرته بالانخراط اليومي في مواجهة كل ما ينال من كرامة الانسان، فقاتل الجهل والتخلف والعصبية الطائفية، ونحى عن دغدغة الغرائز، ناثرا في قلوب اللبنانيين بذور التسامح.
كان الاب سليم شديد الحرص على دور رجل الدين وينتقد سلوك بعضهم من مسلمين ومسيحيين: "مشكلة بعض رجال الدين انهم في خدمة زعماء الطوائف. وهو الخطر الاشد على دورهم في المجتمع، فحينما يستزلم رجل الدين للاقطاع السياسي تحت ذريعة مكاسب مزرية ومآرب سياسية، يمكا القول انه من هنا يبدأ استغلال المنبر الديني للتشنج الطائفي والانحراف في المؤسسة الدينية. لذا اذا نجح رجل الدين في التغلب على انانيته بذلك يكون قد انجز عملا جبارا. ورجل الدين لا يجب ان يغره تصفيق الجماهير له اذا كان ضد ايمانه وضميره"، قال لي ذات يوم.

كأني به وهو يقول هذه العبارات يتذكر بألم وحسرة ما جرى في شرق صيدا عام 1985، حين مشى عكس السير وقلة من الشرفاء الذين قاوموا الفتنة وتهجير المسيحيين ورفض مغادرة المنطقة رغم مخاطر البقاء آنذاك، فاتهم من بعض المسيحيين والمسلمين بجريمة البقاء. لكنه رغم تخوين "الجماهير" ظل ينادي ويقاتل على جبهة عودة المسيحيين ووحدة لبنان من دون كلل او خوف وملل. فنجح هو ومن دون ضجيج، الا ضجيج النفوس التي تنهد به.

سليم غزال اسم من لبنان بل كبير من كبار هذا الوطن، لم تغره المناصب الا تلك التي تزهر في قلوب المظلومين، او التي تشرق في عقول الاحرار في اعماقهم. سيرته ممتدة من احياء صيدا الفقيرة الى قرى جبل عامل وقرى صيدا، سيرة التلاقي والعمل من اجل المعنى الانساني… سليم غزال خسرك الباحثون عن وطن ودولة يليقان بك، ومع موتك يموت شيء من الجنوب الغابر، حين أنبت محاورين احرار مثلك، وصار اليوم ينبت الفرقة في أحيان كثيرة.

السابق
جمعة الزفاف
التالي
وفد من “اليونيفيل” يتفقّد الحدود في عديسة