علامَ يتكئ بري ليبرهن على ولادة “الجبهة الوطنية”؟ وهل ينجح؟

قبل نحو ثلاثة اسابيع، اضاف رئيس مجلس النواب نبيه بري الى قاموسه السياسي مصطلحا سياسيا جديدا، اسمه "الجبهة الوطنية" الجديدة.
التسمية اطلقت في التداول السياسي في اول اربعاء نيابي، عقده رئيس المجلس في ساحة النجمة، بعد غياب قسري طويل نسبيا، كأنه اراد ان يكون باكورة حركة سياسية يعتزم المضي فيها تحاكي الحلة الجديدة لمقر المجلس بعد ورشة التحسينات المكلفة التي ادخلها على هذا المقر العريق!

واللافت انه حين اطلق بري هذا المصطلح المفاجئ في التداول، كانت ثمة مؤشرات توحي كأن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الموعودة، على وشك الولادة، وتالياً فإن الوضع السياسي على عتبة مرحلة جديدة، تطوي معها صفحة سياسية وتفتح صفحة اخرى بمواصفات ومعايير مختلفة.
ففي مقابل تبشيره بولادة "الجبهة الوطنية" تحدث بري صراحة عن انصرام عصر فريق 8 آذار، بما يحمله المسمى من معان وابعاد بدأت رحلتها قبل نحو 6 اعوام.
ولكن رياح التطورات السياسية سارت هذه المرة ايضاً عكس ما يضمره الرئيس بري ويرغب فيه، وخصوصاً الاطلالة مجدداً على المشهد السياسي بحلة سياسية جديدة، يكون فيها الى حد بعيد قطع مع الماضي القريب والبعيد، فلا الجمهور اللبناني المترقب شهد "الصرخة الاولى" المبشرة بولادة الحكومة التي طال انتظارها، واكثر من ذلك تراكمت في الافق المرئي سلسلة دلائل تشير الى ان عملية الولادة، هي في ظهر الغيب لفترة طويلة، في انتظار ما سيلده "مخاض" المنطقة العسير من وقائع ومعادلات سياسية جديدة، مما يعني بشكل او بآخر تأجيل تحقق حلم بري المزمن بظهور معادلة سياسية يكون فيها الى حد بعيد من سادة اللعبة السياسية متحرر اليد من معادلة 8 آذار التي لا يكون فيها له الرتبة الاولى والكلمة الفصل.

واكثر من ذلك اتت مسألة نشر وثائق "ويكيليكس" وما تركته من تداعيات سلبية وتفاعلات داكنة في مناخ العلاقة بينه وبين حليفه "حزب الله"، والتي استدعت "حرده" الشهير لاكثر من 36 ساعة، إذ "اقفل" كل هواتفه وانتقل من بيروت الى المصيلح في الجنوب، واستدعت استدعاءه على عجل قيادات حركة "امل"، وهو امر لم ينته الا بعدما اضطر الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله الى الظهور على شاشات الاعلام يعيد "جبر" الامور بعدما كادت تكسر وتتهشم.
اتت هذه المسألة لتعيد الامور الى "المربع الاول" ولتحجم احلام بري في التحرر من ثوب سياسي بات يعتقد جازماً انه ضاق على جسده الى درجة تكبيله عن المبادرة وتقديم الرؤى وتصورات الحل وبقائه في حيز رد الفعل والاكتفاء بوصف الاوضاع بشكل يومي وتقديم النصائح وهو ما جعله في موقع المتقاعد الناصح عن بعد، شأنه شأن "الحكماء" الذين يقولون كلمتهم ولكن لا احد يتعظ بها في حينه.

وليس جديدا ان بري كبرت اماله برؤية مشهد سياسي جديد بأبطال جدد وبلعبة تنطوي على افاق ارحب، يتكرس من خلال معادلة ينضم اليها صديقه القديم الخارج كلية من اصطفاف قوى 14 آذار، اي رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط ومعه الرئيس ميقاتي وحليفاه النائب محمد الصفدي واحمد كرامي، فضلاً عن الدور المعنوي لرئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وهي في رأيه "معادلة" تسمح للمنخرطين فيها بأداء دور "وسطي" والاجتماع في اطار ما بكر في تسميته بـ"الجبهة الوطنية".

ومن البديهي ان شخصية سياسية محنكة ومخضرمة، كالرئيس بري بات يعي اكثر من اي وقت مضى أن هناك حاجة ملحة على المستويين الشخصي والوطني، لكسر الاصطفاف الحاد الذي يمثله فريقا 8 و14 آذار والصراع المستعر بينهما منذ وقت، والذي شطر الساحة السياسية شطرين بينهما هوة يصعب تجسيرها في المدى المنظور.

وعليه، فإن الرئيس بري وفق الذين هم على تماس معه سعى للاستفادة قدر الامكان من هذه الاكثرية الجديدة التي تضم في صفوفها من كانوا سابقاً في اصطفافات ومطارح اخرى، وبالتالي البناء عليها عسى الحل يكون قاعدة او نواة لمشروع يمكن ان يتطور وينمو لاحقاً، ليصير مشروعاً وطنياً عابراً للاصطفافات الحالية، ويمكن تالياً المراهنة عليه لانتاج حياة سياسية جديدة بمواصفات مختلفة تلاقي مرحلة ما بعد الحكومة الجديدة، التي ستخلو للمرة الاولى من ظل الحريرية السياسية التي بسطت حضورها الطاغي في اللعبة السياسية منذ ما يقارب العقدين.

الذين قدر لهم ان يواكبوا عن كثب حراك بري في العامين الماضيين، ما زالوا يذكرون ولا ريب حماسة الرجل وهو يبشر بعد وقت قصير بولادة حكومة "الوحدة الوطنية" للرئيس سعد الحريري في عام 2009 بقرب بزوغ فجر مرحلة سياسية جديدة من عناوينها العريضة وشوك ذوبان الاصطفافين السياسيين اللذين نشأا منذ عام 2005، وما انفكا قائمين بعناد حينها ووفق العارفين بذهنية الرجل، فإن بري اتكأ على امرين اثنين، كانا في حسبانه انهما قاب قوسين او ادنى من التحقق:
1 – ان الحريري المتسلم للتو رئاسة السلطة الاجرائية، سيكون غيره، قبل ذلك، وهو بالتأكيد سيكون محتاجاً الى رفد بري ودعمه، وخصوصاً اذا شاء ان يبدأ رحلة حكم طويلة وليست عابرة، تكون على غرار رحلة والده الشهيد رفيق الحريري.
2 – ان بري مع جنبلاط الذي كان قد خرج آنذاك خروجا مدويا من رحم 14 آذار، (آب 2009)، والمتحول الى موقع الوسط، سيكون واسطة العقد والركن الاساس لأي لعبة ومعادلة سياسية جديدة.
ولكن، امل بري بمثل هذا التحول لم يدم وقتاً طويلاً، اذ عادت الامور الى سيرتها الاولى، ولا سيما بعد بروز قضية المحكمة الدولية، وما نتج عنها من تداعيات وتمخض عنها من عناوين فرعية، مما فرض بقاء اصطفاف 8 و14 آذار.

وبصرف النظر عن تلك التجربة غير الموفقة في حينها، فلا ريب ان ثمة في الافق السياسي الآن ما يشجع بري على الرهان مجدداً على وقائع ومعطيات جديدة، تجعله يخرج من ثوبه السياسي الذي ضاق عليه، فهل يوفق هذه المرة؟ بصرف النظر عن الجواب، الثابت ان ما من طرف سياسي تحمس لهذه الفكرة او احتفى بظهورها.

السابق
مصادر لـ “الأنباء”: 8 آذار في مستنقع الحسابات الخاطئة
التالي
حتى المساء