طلاب أبيدجان يرممون عامهم الدراسي

يحاول اللبنانيون الصامدون في أبيدجان استعادة نشاطهم ولملمة ما خلّفته المعارك من خسائر، في ظل طمأنة الجانب المنتصر إلى مصيرهم في هذا البلد، فيما الطلاب النازحون يحاولون إنهاء عامهم الدراسي بأقل الخسائر

بالكاد، «شحّاطة إصبع» وقميص من القطن المبلول بالعرق. لا شيء آخر. هربوا بأنفسهم بـ«ولا شي». كان عليهم ذلك. لكن العودة بجعبة خالية، إلا من الخوف، كانت كلفتها أثمن من الهرب من موت كان محتّماً في أبيدجان. فالبعض عاد إلى بلد بلا مأوى، وآخر عاد إلى نقطة الصفر، وثالث ينتظر جلاء غبار المعركة.
أما الكلفة الأكثر ثمناً فكانت عودة تلامذة المدارس قبل شهر واحد من نهاية العام الدراسي. العودة القسرية جعلت الارتباك «ارتباكين»: ارتباك طلاب منتقلين من مدارس ناطقة باللغة الفرنسية إلى تعليم يرتكز على اللغة العربية، وارتباك الوزارات، ولا سيما وزارة التربية التي وضعت «خطة طوارئ» لإلحاق هؤلاء بالمدارس اللبنانية الرسمية والخاصة، بالتنسيق مع وزارة الخارجية والمغتربين المفترض أنها مسؤولة عن عودة «النازحين» والسفارة الفرنسية المفترض أن تسمح لطلاب شهادة الثانوية العامة بتقديم امتحانات «البكالوريا الفرنسية»، بسبب متابعة الطلاب اللبنانيين لدراستهم في أبيدجان وفق المنهاج الفرنسي.
كان يمكن وزارة التربية أن تتجنّب كل هذه الإرباكات لو أنها أدركت الأزمة باكراً. هكذا يقول الهاربون. المهم أنها استدركت، ووضعت خطتها للطوارئ. فما هي هذه الخطة؟ وما هي التسهيلات التي تقدمها الوزارة لإلحاق الطلاب بالمدارس اللبنانية، وخصوصاً لجهة العامل المادي؟
«تسهيل أمور»، يجيب المدير العام للتربية فادي يرق عن كل الأسئلة. لا حيلة في يد الوزارة ربما لاستيعاب صدمةٍ حلّت على حين غفلة. فكل ما تستطيع فعله في مثل هذه الظروف هو «ألا نترك تلميذاً خارج الصف»، يقول يرق. يختصر المدير العام «خطة الطوارئ» بجملة بسيطة: «تُلحق الوزارة الطلاب بالمدارس استناداً إلى إحدى الأوراق التي يقدمها الطالب والتي تؤكد أنه كان في أبيدجان». وتستند الخطة إلى «التعميم الصادر عن الوزارة في 3 شباط الماضي، والمستند هو الآخر إلى تعاميم صادرة منذ أعوام، بشأن قبول الطلاب الوافدين من العراق والدول الأفريقية التي تعاني من حروب داخلية». هذا التعميم الذي يفرض على «التلامذة أو أولياء أمورهم أن يتقدموا بالمستندات الثبوتية المتوافرة، مرفقة بإفادات رسمية صادرة عن دوائر الأمن العام اللبناني تثبت دخولهم الأراضي اللبنانية، لمن لا يحملون جوازات سفر أو وثائق مرور، وإفادة صادرة عن المديرية العامة للمغتربين تثبت وضعهم الاغترابي، وتقديم كل مستند متوافر يساعد في إثبات انتساب التلميذ إلى المدرسة ومتابعة الدراسة». أما الإفادة المصدّقة من المديرية فتخوّل الطالب دخول أي مدرسة.

ومن لا يحملون أي مستند، يخضعون «لامتحان أهلية للصف المطلوب، على أن تقدّم إدارات المدارس المعنية لوائح بأسماء الطلاب المشمولين بهذا التعميم والمقبولين لديها، مرفقة بالمستندات الوارد ذكرها أعلاه مع نتيجة امتحان الأهلية إلى المناطق التربوية المعنية وإلى أمانة سر لجنة المعادلات في وزارة التربية ليصار إلى تسوية أوضاعهم الدراسية».
هذه هي المعادلة إذاً. لكن ماذا عن طلاب شهادة الثانوية العامة الذين لا يكتفون بمجرد الالتحاق بالمدارس، وهم الساعون إلى تقديم «الشهادة الفرنسية» المتشابهة مع المنهاج الدراسي العاجي؟

ربما هي الأزمة شبه المستمرة التي تواجهها الوزارة، إذ إنها «تواصلت مع السفارة الفرنسية لتسهيل تقديم هؤلاء امتحانات الشهادة، وقد وعدتنا السفارة بتسهيل انضمامهم»، يقول يرق. وإذا أُنجزت الامتحانات «فستعمل الوزارة على معادلتها».
هكذا حلّت الوزارة نصف المشكلة، بقي النصف الآخر المتعلق بالتسهيلات، ولا سيما المادية منها. هنا، لا شيء يسعف الأهالي إلا «تسهيل الدخول». وهذا يضع الأهالي أمام خيارين: إما تسجيل أولادهم بالأقساط المطلوبة، وإما الجلوس في المنزل.
ولكن لا بديل من التسجيل لعدم تضييع العام الدراسي. هذا ما فعلته سوسن عز الدين، السيدة التي أتت إلى لبنان قبل أربعة أشهر «على أساس 15 يوماً» ولم تعد. يومها حضرت سوسن وطفلها في عطلة «الميلاد» لتؤثّث منزلها الصيفي، فيما بقي ابناها في أبيدجان يتابعان الدراسة. عادت سوسن واشتعلت أبيدجان. مرّ شهران، فأخذت القرار بالعودة إلى لبنان. عاد الولدان معها، وسجلتهما في إحدى «الليسيات الفرنسية لكونهما يتابعان المنهاج الإيفواري الفرنسي ولا يجيدان اللغة العربية». كلّفت العودة السيدة كثيراً. فعدا عن «تعب القلب» للبحث عن مدرسة تلائم الأولاد، هناك تعب الجيب، إذ دفعت سوسن «عن الفصل الأخير 10 ملايين ليرة لبنانية عن أطفالها الثلاثة».

ما دفعته سوسن دفعه آخرون؛ مهى خضرا وفاتن بحسون ودانيا زرقط. أما البقية الباقية التي آثرت عدم دفع الملايين، فستنتظر أيلول المقبل لـ«مراجعة ما بقي من الدروس في أبيدجان»، كما يقول فادي حمزة، مدير مدرسة الغدير في أبيدجان، حيث افتتاح المدارس اللبنانية لا يزال غير محسوم، وخصوصاً أن معظم طلابها نزحوا إلى لبنان أخيراً، وفق ما يوضح للـ«الأخبار» السفير اللبناني في ساحل العاج علي عجمي. في هذا الوقت تستعيد الحياة طبيعتها شيئاً فشيئاً في أبيدجان، كما يقول أدهم خليل صاحب أحد أكبر مصانع الحليب في المنطقة الصناعية في اليوبوغون، المملوكة في معظمها للبنانيين. يزور خليل مصنعه للمرة الأولى منذ أسابيع، للاطلاع على حجم الخسائر التي لحقت به جرّاء أعمال النهب والسرقة. «سرقوا كل شيء» يقول، ولكنهم «تركوا الآلات، وهذا يسهّل علينا مباشرة العمل في أقرب وقت». إلا أنه يرى أن هذا مرتبط باستتباب الأمن، وانتشار قوات أمنية نظامية في الأحياء، وهو الأمر الذي يقول السفير علي عجمي إنه مرتبط أيضاً بإعادة إحياء الجيش وجهاز الشرطة اللذين تضررت بنيتهما تضرراً بالغاً خلال الأزمة الأخيرة، وبالتالي فإن حكومة الرئيس الحسن وتارا ما زالت تعتمد حالياً على «القوات الجمهورية، وهي عبارة عن اتحاد متمرّدي الشمال وعناصر الجيش المؤيّدين لوتارا». وبناءً على ذلك، فإن أعمال السرقة لا تزال مستمرة، وإن بوتيرة أخف. ويروي أحمد مهنا أن معظم هذه السرقات ينفذها مسلحون ينتهزون الفرصة قبل فرض الأمن وتسليم السلاح، لسرقة ما أمكنهم. أما السيارات فيقول مهنا: «إن مزاد التفاوض يُفتح بين أصحابها والسارقين، وبعض هؤلاء يبتزّون أصحاب السيارات إلى حدّ قد يصل إلى دفع نصف ثمن السيارة كفدية». وعلى رغم مبادرة عدد من اللبنانيين إلى فتح محالهم على نحو طبيعي، سبّب الحذر تردّد كثيرين في الإقدام على هذه الخطوة»، بانتظار قوات وتارا لتنظيف ما بقي من ميليشيات الشوارع»، بحسب مهنّا. وفي هذا السياق، يرى السفير عجمي أن هناك إشارات مطمئنة وجدية من جانب حكومة الرئيس وتارا الذي أشاد باللبنانيين «الذين قدّموا الكثير لساحل العاج»، كما جاء في خطابه الأخير الذي دعا خلاله «الذين غادروا إلى العودة، وإلى معاودة النشاط الاقتصادي كالمعتاد». ولكن عجمي يؤكد أن الرهان على عودة الأمور إلى طبيعتها يكمن في تسريع الحكومة الحالية ـــــ وهو رهان لبناني في الدرجة الأولى ـــــ خطواتها للإمساك بالوضع الأمني.

«نحن لا نستهدفكم»

فيما تستعيد مدن ساحل العاج هدوءها بحذر، ينكبّ اللبنانيون هناك على إحصاء خسائرهم وترميم محالهم ومصانعم تمهيداً لإعادة افتتاحها. في هذا الوقت، تتابع لجنة الطوارئ اللبنانية التي أُنشئت في بداية الأزمة في ساحل العاج، من فاعليات الجالية والجمعيات بالتعاون مع السفارة اللبنانية، نشاطها على صعيد مواكبة توفير حماية مصالح الجالية، بحسب السفير اللبناني علي عجمي. ويلفت الأخير إلى أن اجتماعاً عُقد بين أعضاء اللجنة وعدد من الضباط المتمردين الموالين لحكومة الرئيس الحسن وتارا، للبحث في كيفية تأمين مؤسسات اللبنانيين ومنازلهم، حتى ضبط الفوضى على الأرض. وقد أكد الضباط العاجيون أن اللبنانيين غير مستهدفين بأيّ أعمال انتقامية «وما يجري هو فوضى مؤقتة، ونحن لا نرضى حتى مجرد الحديث عن استهدافكم». كذلك أبدوا استعدادهم لحماية اللبنانيين، ووضعوا في تصرّف الجالية أرقاماً ساخنة للتبليغ عن أيّ حادثة يتعرّض لها اللبنانيون في منازلهم أو محالهم، «حتى تعالج».

السابق
بدء اللقاء المسيحي في بكركي
التالي
نقيب الافران:زاد الدعم على الطحين