التخبط اللبناني بين الأجندتين

يجانب المرء الحقيقة إذا اكتفى برد أسباب التأخر في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة الى التنافس على الحصص والتوزير والحقائب، وإلى الطموحات غير الواقعية، بالمقاييس اللبنانية، لبعض الفرقاء المحليين.

ومن دون تجاهل العوامل المحلية هذه، فإن ما يدعو إلى عدم حصر أسباب التردد والارتباك والتأخر في إنجاز الحكومة اللبنانية بها، هو أن من غير المنطقي أن يعجز راعيا الوضع اللبناني الجديد، أي سورية و «حزب الله» (ومن ورائه إيران)، عن حسم عملية التأليف بعد نجاحهما في قلب الطاولة بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري. وبالتالي لا بد من البحث عن أسباب أخرى للتخبّط في إنجاز الحكومة، في خانة الموقف الإقليمي وتطوراته منذ بداية كانون الثاني (يناير) الماضي عندما كُلِّف الرئيس نجيب ميقاتي.

فالأجندة الإقليمية التي أسقطت الحكومة السابقة ومعها التسوية السورية – السعودية حول لبنان، هي التي يفترض أن تتحكم بقيام الحكومة الجديدة. فالتوجه السوري نحو تغيير المعادلة بدأ منذ شهر أيلول (سبتمبر) الماضي حين قاوم الحريري محاولة دمشق تطويعه فرفض استدراجه الى مطالبتها بإلغاء مذكرات التوقيف السورية في حق عدد من معاونيه وحلفائه حول ملف «شهود الزور»… وبهذا عاكس رغبتها في تسهيل العودة الى تفويضها إدارة الحكم في لبنان وتفاصيل شؤونه. ولذلك كان لا بد من أن تسعى إلى إبعاده إذا كان يبدي قدراً من الاستقلالية عن أجندتها.

أما من الجانب الإيراني، فإن المناخ الذي رافق إسقاط الحريري لم يكن أقل سلبية. فطهران اكتشفت ممانعة الحريري إزاء مطالبها حين أجاب سلباً بطريقة ديبلوماسية على مطالبها، أثناء زيارته لها في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عندما اقترحت عليه إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين أسوة بتركيا، والتعاون العسكري، ولمحت بضرورة إرساء تعاون مالي وتسهيلات مصرفية في إطار التعاون التجاري. فقد عاكس بذلك طموح طهران للحصول على تغطية رسمية كانت تأمل بها بفعل نفوذها في لبنان عبر «حزب الله»، لاعتماد بيروت بديلاً من عواصم أخرى للتهرب من العقوبات التي فرضها مجلس الأمن عليها. وهذا ما يفسر تصوّر الأمين العام للحزب ما كانت دمشق عبّرت عنه ضمناً بالفيتو على الحريري، عند تحرك الوسيطين التركي والقطري نحوها.

ومقابل استسهال دمشق والحزب قلبهما الأكثرية لرسم معادلة جديدة تستبعد الحريري وحلفاءه، فإن عوامل عدة شكّلت عوائق أمام هذا الهدف منها:

1- غضب القيادة السعودية على نسف التسوية التي أُنجزت بينها وبين القيادة السورية على لبنان. وهو غضب لم يغفر الى الآن ما حصل، وهو مخالف للتوقع السوري بإمكان تجاوزه نتيجة تقدير دمشق بأن الرياض ستتكيّف مع الأمر الواقع الجديد. فالرياض ردت بالتمسك بالحريري وبدعمه، من دون ان تذهب الى القطيعة مع دمشق. هذا فضلاً عن ان الدول الوسيطة، ولا سيما تركيا وقطر اللتين فشلتا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لم تخفيا للقيادة السورية امتعاضهما من إسقاط التسوية ومعها الحريري، وبالتالي تضامنهما مع الرياض.

2- إن حسابات التمهّل في سياسات دمشق الإقليمية، والتي فرضتها التحولات العربية بفعل الثورات المتدحرجة، أوجبت «تعليق» الملف الحكومي في لبنان. فلهذه التحولات انعكاسات على دمشق كما ثبت لاحقاً حين انتقلت عدوى المطالب الشعبية بالحرية والديموقراطية إليها. لم تسعف الاندفاعة الإيرانية، التمهّل السوري. فرد الفعل السلبي، العربي، من مصر الى البحرين، إزاء محاولة طهران توظيف التحولات العربية لمصلحتها، جاء في وقت تحتاج القيادة السورية الى حد أدنى من حسن العلاقة والتطبيع مع المحيط العربي الجديد، لا يتلاءم مع الذهاب بعيداً في قهر فئة من اللبنانيين عبر التشكيلة الحكومية التي لا يمكن إلا ان تكون منسوبة الى النفوذ السوري والإيراني، في زمن الثورات ضد القهر والظلم. فضلاً عن ان المواجهة المتصاعدة بين دول الخليج وإيران جعلت ما جرى ويجري في البحرين والكويت في إطار هذه المواجهة، امتداداً لما بدأ في بيروت في سياق الأجندة الإيرانية.

3- خالفت الوقائع المحلية توقعات دمشق و «حزب الله» بقدرتهما على استعادة المبادرة ضمن الواقع السنّي ومراهنتهما على إضعاف الحريري الذي أدى إسقاطه الى التفاف شعبي قياسي حوله كما ظهر في 13 آذار (مارس) وفي زيارته مسقط الرئيس المكلف طرابلس، هذا فضلاً عن ان الحريري غادر نهائياً الموقف المهادن مع سلاح «حزب الله» الذي اقتضته رئاسته لحكومة وحدة وطنية، فبات هذا السلاح وتأثيره في المعادلة الداخلية عنواناً يفرض نفسه على المشهد السياسي، موازياً للموقف من التدخل الإيراني، لبنانياً وعربياً ودولياً. وأضيف بذلك الى المشهد الداخلي حريري آخر، لا بد للساعين الى تشكيل الحكومة من أن يحسبوا حساباً لمفاعيل توجهاته وسط الفضاء الإقليمي الحالي.

السابق
العرب: الحريري يتهم إيران بالتدخل في الشؤون العربية
التالي
الثورات العربية في عصر العولمة والإنترنت