انتفاضات شعبية ولا برامج: الطغيان يعيد الاستعمار… محرِّراً

تدخل الشعوب العربية، بالتتابع، الى رحاب الثورة متعجلة الخلاص من أنظمة الحكم الدكتاتورية التي جاءت بمعظمها انقلابات عسكرية أو مصادفات قدرية من خارج التوقع.
وربما لان أهل النظام العربي، بمعظمهم، ان لم يكن جميعهم، قد وصلوا الى السدة من خارج الانتخاب الشعبي، بل على حسابه، سواء بالانقلاب العسكري أو بالتدبير الاضطراري منعاً للفوضى، فلقد رأوا في «الشعوب» مجرد رعايا لا شأن لهم بقرار الحكم.

حتى «الانتخابات» بل الاستفتاءات، المنظمة بدقة، لم تتجاوز الشكل مطلقاً، وكانت نمطية تماماً تنقل من بلد الى آخر بغير تغيير فتعطي النتائج ذاتها مجدداً، «مفوضة» الطغيان بأن يقرر لها حياتها، متبرعة بأن تسبغ عليه «الشرعية» عبر شكل ديموقراطي يتنافى مع طبيعته الدكتاتورية.
هل من الضروري التذكير بأن نسبة مشاركة الرعايا في تلك الاستفتاءات لم تتجاوز العشرين في المئة، وهم بمجموعهم من الموظفين الذين يخافون على رواتبهم أو الذين يتجنبون أن يصنفوا من «الخوارج» فيعاقبوا بأرزاقهم التي لن يعوضها الالتزام بأصول الديموقراطية.

في الغالب الأعم من الانفجارات الثورية، التي شهدناها متوالية في الشهور القليلة الماضية، فإن الشعوب العربية قد فوجئت بقدرتها على مواجهة الطغيان وإسقاطه… ثم فوجئت بأنها لا تعرف كيف تبني النظام الجديد الذي حقق لها مطامحها ويعيد اليها اعتبارها بوصفها مركز القرار.

ذلك أنها تحركت من دون خطة، وان كانت تعرف ما لا تريد، ثم انها لما نقشت ذلك الشعار المجيد: «الشعب يريد إسقاط النظام» لم تكن تملك صورة واضحة للنظام البديل… الذي تريد.
لقد تحركت بدوافع متعددة بينها الشعور بالظلم وامتهان الكرامة والإذلال بالفقر، بينما هي تعرف أن الطغيان ينهب خيرات البلاد، ويفتح أبوابها للسماسرة والنهابين من حاشيته، ويضعفها أمام «الخارج»، أي خارج قوي وكل خارج سواء أكان أميركيا ام إسرائيليا، ام خليطاً منهما ومن معهما.

ثم إن النزول الى «الميدان» كان محاولة لاكتشاف الذات والاستقواء بالكثرة في مواجهة جحافل قوى الأمن.
لقد تحركت الجماهير بقليل من التنظيم وكثير من العفوية وكرد فعل على الامتهان وشطب الشعب من دائرة التأثير ومن المشاركة في القرار.
ولكن الطغيان هو الذي وفر فرص النجاح لهذه الانتفاضات الشعبية، برد فعله القمعي، الذي لا يعرف غيره أسلوباً، والذي يكشف خوفه من رعاياه. لقد سرّع القمع الدموي وتيرة الاحتشاد. أحس «الرعايا» انه لا مفر من المواجهة لاستخلاص حقوقهم… ومع سقوط أول شهيد تعاظمت غضبة الرعايا وقد صيرها الدم المسفوك كتلة واحدة. صيرهم شعباً في مواجهة الطغيان.
مع دوي رصاص القمع وسقوط الشهداء اقتربت اللحظة الحاسمة: صار التغيير ضرورة. سقط التردد، وسقط الخوف وسقطت حسابات الخسائر والأرباح. تأكد للشعب أن عليه أن يدفع كلفة التغيير ليمكنه تحقيق شعاره: الشعب يريد إسقاط النظام!
صار الخيار محدداً: ينجح الشعب في فرض إرادته بالتغيير، أو ينجح النظام بالقمع فيفتح البلاد للحرب الأهلية ومعها – آليا – التدخل الأجنبي.
ذلك انه متى انطلقت دينامية الثورة يصير من الصعب أن توقفها محاولات التحايل عليها بالتنازلات الجزئية والوعود الغامضة.

ومن خلال الانتفاضات التي تفجرت في العديد من الأقطار العربية يمكن استخلاص نماذج متباينة للتعامل مع الثورة:
1. النموذج الأول – تونس. مواجهة التحرك الشعبي مباشرة، وفي ساعاته الأولى، بالسلاح.
2. النموذج الثاني – مصر. المواجهة بقدر من القمع والكثير من التحايل.
3. النموذج الثالث – اليمن. المواجهة بالتنازلات التدريجية التي تشجع الثورة على الاندفاع الى الحد الأقصى.
4. المواجهة بالقوة المفرطة التي تأتي بالقوات الأجنبية بذريعة الفصل بين الطرفين المتواجهين.
وفي النموذج الليبي، مثلاً، رد نظام القذافي (وأبناؤه) على المحتجين بعنف بالغ، بدلاً من الاستماع اليهم، ومحاولة تفهم مطالبهم والوصول الى تسوية تحفظ استقلال البلاد ووحدة الشعب.
وكان للرد بالقوة نتيجة مباشرة: اتسعت الهوة بين أهل الانتفاضة وبين النظام بحيث توفرت فرصة للأجنبي كي يتدخل…
وها نحن أمام صورة من الكوميديا السوداء: لقد جعلت الاستعمار، قديمه والجديد، يبدو كمنقذ، أو كمرجعية للوطنيين من أهل المعارضة، وهكذا استعاد الاستعمار اعتباره، بينما أساطيله البحرية والجوية تدك المنشآت والقواعد العسكرية وشبكات الطرق التي دفع شعب ليبيا كلفتها الباهظة، على حساب حقه في حياة كريمة.
5. أما النموذج الخامس فيتمثل بمواجهة غضبة الشعب بالتجاهل، أو بالرد على تظاهرات الاعتراض بتظاهرات التأييد (وقد شهدت شوارع القاهرة تجربة بائسة في هذا السياق، في حين شهدت معظم المدن السورية حشوداً مؤيدة للنظام، لكنها لم تنجح في حسم الأزمة التي لا تزال في الجو، تنذر بالتفجر، مرة أخرى، وربما على نطاق أوسع، ان لم يبادر النظام الى إصلاحات جذرية لم يعد مقبولاً إرجاء إعلانها والعمل بها).

6. ينفرد النموذج السادس بكونه من طبيعة مختلفة: فالرد على الانتفاضة الشعبية في البحرين اتخذ شكل محاولة دمغها بالمذهبية والرد عليها بحملة عسكرية لم يتعب من أمر بها وسير الجيوش لقمعها من إبراز «هويتها»… خصوصاً ان قر ب البحرين من إيران سهل اتهام النظام الإيراني بأنه هو من حرك وموّل ونظّم في البحرين، قافزاً من فوق واقعة تاريخية معروفة: ففي العام 1971، ونتيجة لمحاولة شاه إيران «ضم» البحرين بوصفها «بعض أراضيه» وبذريعة أن أكثرية شعبها من «الشيعة»، تدخلت الأمم المتحدة، وأجرت استفتاء شعبياً أكد فيه أهل البحرين وبأكثرية ساحقة ماحقة إنهم عرب وليسوا إيرانيين، وإنهم لا يريدون الانضمام الى إيران بل يصرون على استقلالهم في جزيرتهم العربية الصغيرة.
والخوف أن تستخدم المحنة البحرينية في توسيع وتبرير التدخل الأجنبي في منطقة الجزيرة والخليج العربي، بذريعة منع الفتنة الجديدة بين المسلمين التي يمكن لألسنة نيرانها ان تمتد لتشمل معظم المشرق العربي، موفرة فرصة ذهبية لتبرير الهيمنة الاميركية الجديدة بالحرص على الدين الحنيف وحماية العروبة من الخطر الفارسي.

أليس غريباً، ومريباً، أن تكون الانتفاضات الشعبية في وجه أنظمة دكتاتورية قمعية كان يرعاها الغرب، بشخص الإدارة الاميركية، المدخل الجديد لعودة الغرب وبالسلاح الى هذه الأرض العربية التي دفعت غالياً جداً ثمن تحررها وإجلاء القوات الأجنبية (فرنسية وبريطانية وأميركية أيضا، كما في ليبيا) عن أراضيها!
على مدار الساعة يطل على المواطنين العرب رؤساء ووزراء وقادة جيوش وجنرالات أساطيل بحرية وجوية لإظهار حرصهم على تأمين سلامة الرعايا العرب في وجه مخاطر التدمير والإبادة التي تشكلها الحملات العسكرية التي يشنها أبناء القذافي وكتائبهم على «الثوار» في شرقي ليبيا وغربها وبعض مناطق الوسط والصحراء.
يقف الجنرالات، أميركيين وأطلسيين، أمام الكاميرات، في مؤتمرات صحافية، ليتحدثوا عن الغارات بطائراتهم الأسرع من الصوت، والبوارج والمدمرات الأقوى من جيوش القذافي، ليتحدثوا عن خططهم لحماية الديموقراطية في بلادنا بنيران مدافعهم وصواريخهم في مواجهة مدافع الطغاة من أهل النظام العربي.

هل من الضروري القول: ان الجماهير الطامحة الى تغيير النظام تسقط ضحية المدفعيتين؟
لقد ارتفع العلم الفرنسي في أكثر من مدينة عربية، وكأنه بشارة نصر للشعب المقهور.
أما الأعلام الاميركية والبريطانية وحتى النروجية فتعبر أسرع من الصوت سماوات المدن العربية خلال مهرجانات القصف المركز لقواعد الجيوش (الوطنية) التي وصل حسن الظن أحيانا الى الافتراض انها إنما تعد للمشاركة في تحرير فلسطين.
 
ليس أبشع من الطغيان وأقسى… انه يدمر البلاد بحكمه الفردي الذي يلغي الشعب تماماً ويتعامل معه باحتقار شديد، أين منه الحكم الاستعماري. ثم انه قد يتشبث بالسلطة في مواجهة ثورة الشعب بحيث يتسبب في تقسيم البلاد أو في إضعافها وتبديد عناصر قوتها (الوحدة والثروة والسلاح) بحيث تصبح عودة الاستعمار مطلباً جماهيريا، أو تسوية سياسية يفرضها «المجتمع الدولي» تحت الراية الاميركية ذات النجوم الكثيرة.
والانتفاضات العربية محكومة بأن تتوالى وتستمر حتى لو انتكست، لان حكم الطغيان أبشع من ان يستحق البقاء.
ومن أسف فقد يكون الوريث الفعلي لهذا الطغيان هو الاحتلال الأجنبي بشهادة المحنة العراقية في ظل صدام حسين.

السابق
الحكومة على خط الزلازل العربية والدولية
التالي
نجار: لا بد من ايجاد مكان لمحاكمة “فتح الاسلام” فورا