جنوبيات مشردات في أنحاء العالم

(خاص الموقع)

– هدى: أحب العودة إلى لبنان لكني أخاف على أولادي من "رصاصة طائشة"
– حلا: الغربة موت مؤقت نود لو ينتهي… والإنسانُ هنا يعمل كالآلة..
– نتحرّق للبنان ولكن… الإنسان في وطننا هناك رخيص والموت رخيص
– الوطن استثناء سياحي نعود بعده سريعاً إلى أعمالنا وحياتنا هنا..
– مريم: الحياة في ساحل العاج سهلة ومريحة لكني أشتاق إلى.. قَبر أُمّي
– عبير: نحلم بالعودة لكنها أمنية بعيدة المنال بعد خُطُطُنا الحالية ومصالح الأولاد

عيّنة من نسوة الجنوب، ذهبن شابات إلى بلاد الاغتراب جراء قصف وموت. أقارب وخوف مفتوح. الآن يتطلعن إلى "حلم العودة" فيجدنه بعيداً. جنوبيات "مطيشرات" في جهات الأرض الأربع. يحنّن إلى أشيائهن والأهل والضيعة والأقارب. وإحداهن (مريم) تحن إلى قبر أمها. وحلا تقول: نحن هنا كالعالق في عنق زجاجة. الغربة تكسر عالم الأحلام… وأمنية العودة.
رسخت القناعة لدى البعض أن لبنان بلد طارد لأبنائه، فأعداد اللبنانيين في الخارج مخيفة وللأسف الأرقام المتوافرة كلها تقريبية، بل إن لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي لم يجر فيها إحصاء رسمي للسكان منذ العام 1932 خوفاً من تغير المعادلات والتوازنات الطائفية وهي العقدة المستعصية.
الهجرة من لبنان تعود إلى أوائل القرن التاسع عشر، حين بدأت شرارات الحروب الداخلية تتنقل من منطقة إلى أخرى. وقد نشطت تلك الهجرة إبان فترة السيطرة العثمانية على المنطقة ومعاناة اللبنانيين وقتذاك من الاضطهاد والعوز ما دفع بالكثير من بنيه للهجرة هربا من الجوع والخدمة الإجبارية في جيش "الانكشارية العثمانيّة".

الحروب والاحتلالات
الهجرة توالت فصولاً حتى العام 1975 عندما اندلعت "الحرب الأهلية" التي لا تزال تتوالى فصولها بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى توالي الاجتياحات والحروب الإسرائيلية الصهيونية على الأرض والإنسان، ونال منها جنوب لبنان النصيب الأكثر ما أدى إلى كثير من التغيرات وخصوصاً في التركيبة الديموغرافية لقراه ومدنه، ودفع الاحتلال الصهيوني بالكثير من الجنوبيين إلى الهجرة، حيث تشير بعض الدراسات إلى وجود ما لا يقل عن مليوني لبناني في الخارج وحوالي 12 مليون متحدر من أصول لبنانية، ولهؤلاء معاناتهم مع الاغتراب، وخصوصا النساء اللواتي يتحملن العبء الأكبر من سلبيات الغربة نفسياً.

اغتراب وغربة
تقول ريما لأنني جنوبية الهوى والانتماء وقد عايشت المرحلة الأخيرة لتلك الهجرة المفروضة قسراً على الجنوبيين، بظروفها وأسبابها، فالجنوب واجه مصيره ليدفع فاتورة الوطن وحده. لماذا هذا العبء الكبير الملقى على عاتق الجنوبيين مع أن الجنوب هو أرض الثروة البشرية والفكرية، ولكن زعماءه استأثروا بريع التبرعات والمشاريع الحيوية لمصالحهم وحساباتهم الشخصية، بدل المشاريع التي تكفل للجنوبي التمسك بأرضه والصمود فيها فعلياً، وتأمين فرص العمل لشبابه وصباياه.

حنين وتساؤل
حلا التي هاجرت عن الوطن هرباً من الحرب الاجتياح البربري 1982 لتحط في بلجيكا، تقول: قدمنا إلى هنا بعد إن أوصدت كل الأبواب أمامنا ولا عمل أو أمان. ونحن هنا تضيف (بالإشارة إلى العائلات الجنوبية الموجودة) نعيش كل تفاصيل قرانا من عادات وتقاليد وقد تأقلمنا. وأتمنى العودة شوقاً للأهل والوطن؛ ولكنها تستدرك: حالنا هنا أفضل. وتضيف: أشتاق إلى الضيعة والبيت والأهل ولكنني لا أحبذ العودة بأطفالي إلى هناك فالأمان هو الثروة الحقيقية. ولا أدري كيف كنا نعيش تحت دوي المدافع يومياً وكأننا شعب لا يستحق الحياة؟

وحدة وضياع
وتقول: وكأنني في موت مؤقت فكل الأشياء صفراء وقاتمة حتى الإنسان هنا كالآلة يعيش بوتيرة متسارعة لهثاً وراء لقمة العيش دون احتكاك أو تفاعل حقيقي مع كل ما حوله من بشر وحجر. وهي تقضي معظم وقتها وحيدة كما تقول: أتيت في أولى سنِّي زواجي فكان زوجي وحيد والديه فهاجروا به إلى هنا مخافة فقده وبعد زيارته للوطن تزوجنا فكان كل شيء سريعاً لإتمام معاملات القدوم الطويلة وحتى حفلة الزفاف حرمنا منها بسبب الأوضاع الأمنيّة هناك. ولكن دون جدوى تقول: نحن كالعالقين في عنق زجاجة لا نقدر على التراجع ولا على المضي قدماً. فكل الخيارات صعبة وللغربة ثمن باهظ. ولكن للبقاء داخل الوطن أثمان وأثمان.

الإنسان… رخيص
هدى التي تعيش في إحدى دول الخليج هي في منتصف العقد الرابع يرافقها الأهل والزوج وبعض الأقارب تحكي عن تجربتها بارتياح أكبر، فالخليج لا يعد اغتراباً حقيقياً لعوامل موحدة نتشاركها كاللغة والتقاليد والدين. كل ذلك ساعد في سرعة التأقلم والانسجام ولكنها تعاني هاجس العودة إلى الوطن. حول تجربتها تقول: أبدأ نهاري متأخرة فالأولاد كبار يتولون شؤونهم والزوج موظف في شركة عقارية براتب جيد واثنان من الأولاد موظفان أما البقية فلا زالوا يتابعون الدراسة في المعاهد الخاصة. تضيف: تمنيت لو يعرف أبنائي وطنهم ويكملوا التعلّم فيه ولكنني أخاف فقدهم برصاص طائش كالذي يحصل مع الكثيرين ممن فقدوا فلذاتهم بلا ثمن فالموت رخيص في الوطن والأرخص منه هو الإنسان هناك. فالوطن بالنسبة لنا بات استثناء سياحياً ولوقت قصير بعدها نعود إلى أعمالنا وأماننا لأن صعوبة الحياة في الوطن وتكاليفها عبء لا نستطيع احتماله طويلاً هناك.
أحنُّ إلى قبر أمّي
لمريم الموجودة في ساحل العاج منذ 7 سنوات حكاية فَقْدٍ وحرمان ترويها بكثير من الدمع والحزن المرير: كنت في العاشرة من عمري حين فقدت والدتي واثنين من إخوتي في إحدى ليالي القصف العنيف على قريتنا في الجنوب فجأة وجدت نفسي وحيدة مع والدي الذي سرعان ما تزوج بسبب وجود أخوة صغار يحتاجون للرعاية والكثير من الاهتمام. بعد تلك الفاجعة تعاونت وخالتي على رعايتهم دون أن أتمكن من إكمال دراستي لقد أصابني صمت وذهول طويل بعد تلك الحادثة فكان قرار والدي بتزويجي أحد الأقرباء المغتربين، قدمت إلى هنا ولم أتجاوز السابعة عشر عمري ولكنني كنت اشعر بالعجز والهرم. أفكار شتى في رأسي لا تهدأ. أفكاري وهواجسي كثيرة متراكمة وجدت عائلات طيبة هنا نجتمع وأبناء الجالية في مناسبات عدة والحياة يسيرة، ولكنني أشعر بنقص لا أستطيع شرحه وأجد كثيرات من حولي ممن يحاولن سد الفراغ باقتناء الأشياء والمظاهر. وتستطرد بارتباك: لا أود العودة بالرغم من شوقي لأخوتي، للجيرة الطيبة، إلى قبر أمي إلى الأحبة والأصدقاء ولا أجرؤ على النظر إلى الوراء لحظة، مخافة أن أرى دماء من أحببتهم وبقايا أشلاء.

عودة مع وقف التنفيذ
عبير في فرنسا تحكي هموما من نوع آخر حول مجيئها عبر البحار وعلى مراحل شتى إلى أن وصلت باريس مدينة الأحلام برفقة زوج مصاب، ساعده القدر على تلقي العلاج لصعوبة أوضاعه الصحية: وقتها وجدت نفسي أمام تحديات بسبب اختلاف في اللغة والعادات وأشياء كثيرة تطلبت رحلة العلاج وقتا طويلا فأخذنا قرار البقاء وإكمال مسيرة الحياة هنا. ولربما كان قراراً صائباً على الرغم من صعوبات شتى تجاوزنا أكثرها حتى الآن. احلم بالعودة دوماً فأهلنا جميعهم في الوطن ولكن لا يوجد ثمة ما يطمئن في الأفق. لقد أكملنا دراستنا ونعمل معاً في مكان واحد. أطفالنا ولدوا هنا ويتلقون تعليماً في مدارس جيدة لا نستطيع حتى نقلهم إلى ما هو أغلى ثمناً وأدنى مستوى. حياتنا هرولة والجميع يعيشون هنا على المنوال نفسه و"حلم العودة" مجرد أمنية لدينا ولكنها بعيدة عن خططنا الحالية ومصالح الأولاد.
وأيّاً كانت آلام الاغتراب وهمومه وحتى إيجابيته وإنجازاته الكثيرة فنحن، خارج الوطن، أرقام صامتة وحتى أحياناً أصفار إلى اليسار.

السابق
نفايات صيدا براً وبحرا.. والأزمة مرشحة على كل الإحتمالات
التالي
المتعة.. في القرآن والسنة