وأصدقاء سوريا، انكشفوا أيضاً

ليس مسيحيّو الحريري وحدهم من كشفتهم أحداث سوريا. فالانكشاف طال أيضاً المسيحيين الأصدقاء لدمشق.
في المقلب الحريري، انكشف الرهان. في المقلب «السوري»، انكشف الاتكال. هناك كان وهمٌ مكتوم. هنا كان المكتوم هو القلق. على مدى أسبوع تظاهرات درعا وأخبار اللاذقية وأخواتهما، لم يلتق «مسيحي حريري» بزميل له، إلا كان «الحلم السوري» ثالثهما. وعلى مدى الأسبوع نفسه، لم يلتق مسيحي «أنتي حريري» برفيق له، إلا كان «الذعر السوري» ساكنهما.
الأسباب الكامنة لدى مسيحيي الحريرية، خلف «الحلم» بسقوط نظام سوريا، معروفة ومكشوفة. كتبها شيراك في وثائقه الرسمية المنشورة. وصدَّقها أبو جمال، حتى قبل أن يصير مقيماً في المنزل الباريسي لأوناسيس، المنتقلة ملكيته إلى آل الحريري.
لكن، ما الذي يفسّر الذعر لدى أصدقاء لسوريا؟

قد يركز خصوم هؤلاء على أن قلقهم دليل على عدم وثوق حتى «حلفاء دمشق»، بصلابة النظام فيها، وعلى شكوكهم المكتومة، في شرعية سلطاتها، وبالتالي في استقرارها المنبثق من تلك الشرعية، واستمرارها المرتكز عليها. لكن الأهم في هذه الحال، هو التدقيق في القراءة الذاتية: لماذا أحس هؤلاء بذاك الخوف؟ وهل يشي خوفهم المفترض هذا، بحالة اتكالية على الرافعة السورية في الواقع اللبناني؟ واستطراداً، ما هي أسباب تلك الاتكالية، على مستوى التكوينات السياسية لهؤلاء؟
في التحليل العام، يمكن الحديث عن ثلاثة أسباب نظرية لهذه العطوبة الممكنة:

السبب الأول، هو هذا العطب التنظيمي المزمن والمستدام، الذي يرى البعض، بعد أعوام طويلة من إثارته وعلكه، أنه تحوّل حالة ثابتة. أقصى الممكن هو التعايش معها، والحد من ضررها والخسائر، مع جهد أقصى من ذلك، عند الاستحقاقات، تماماً كما حصل بنسبة متواضعة في نيابية عام 2009، وبتحسّن ملموس عند بلدية عام 2010. والعطب التنظيمي المذكور، لا يطاول تكويناً سياسياً محدداً، وإن كان يظهر في شكل أوضح، كلما كان التكوين المقصود أكبر وأكثر امتداداً واتساعاً. غير أن هذا العطب يتناول أيضاً القدرة على دمقرطة مفهوم التنظيم الحزبي من جهة، وعلى التعاون السليم والسوي، بين مختلف التنظيمات. وقد تكون الظاهرة المجهضة مع «اللقاء الوطني المسيحي»، أبرز دليل.
السبب الثاني بعد العطب التنظيمي، هو العطب التفكيري. يقول كثيرون من المراقبين والمحايدين، إن الحركة الفكرية السياسية لدى المسيحيين «المتفاهمين» مع سوريا، قد استنقعت منذ مدة في ركود ظاهر، حتى إن بعضهم يصف طبقاتهم السياسية، بما يشبه «نومونكلاتورا» جديدة. هي في الواقع مزيج هجين من أصحاب الأموال من «بسودو» (pseudo) حديثي النعمة، مع بعض أسماء منبوشة ومكتومة اللسان، إضافة إلى هوامش وملحقات، تكتسب شرعيتها من حرفة التبخير.
هذا الواقع الفكري جعل تلك التكوينات تستقيل فعلياً من أي جهد تفكيري وتسويقي جدي فاعل وناجع لمشروع ميشال عون، كظاهرة مركزية ومحورية للمسيحيين الأصدقاء لسوريا. هكذا ظلت «المشرقية» شعاراً شباطياً، والعداء لإسرائيل عبارة مقتصرة على مناسبات، ومحظورة في مناسبات أخرى، «والدولة المدنية» مفردة مجهولة، يبلغ جهلها حد المحرَّم… فضلاً عن مفاهيم بنيوية كثيرة، حملها خطاب عون، ولم تجد في التكوين السياسي المحيط من يبلورها، فيما «الشغل» السياسي اليومي، على طرق حديدتي «الفساد» والتوطين، لم يكف، ولا يلغي الضرورات الفكرية الأخرى والأكثر عمقاً. وهو ما تجلى على مستوى القواعد، في انطوائية فكرية مقلقة، عنوانها رفض الآخر، والهروب من سماعه، والاكتفاء بأبلسته، على طريقة بروباغاندا الفايسبوك: جعجع مجرم والحريري حرامي، وما بقي من جهد فكري مطلوب، يقتصر على مجموعة من صور البهائم المختلفة نلصقها على كل الوجوه والرؤوس.

يبقى سبب ثالث، مكمّل للعطبين السابقين، ألا وهو انجرار المسيحيين «المتفاهمين» مع سوريا، من دون أن يدروا أو يريدوا، إلى حفلة مزايدات طائفية ومذهبية أحياناً، مع القوى المسيحية الأخرى، أي الاستدراج الذاتي إلى ملاعب الخصم، ومحاولة الركض على المضمار الذي يتقدم فيه الآخرون أشواطاً، في الرموز والشعارات والماضي والمشروع والخطاب. وهذا ما ظهر بوضوح، في الارتباك الذي عاناه هؤلاء المفترضون علمانيين، إزاء الظاهرة الشعبية المطالبة بإسقاط النظام الطائفي.
لهذه الأسباب الممكنة، خاف المسيحيون «الأصدقاء» لسوريا، من اضطراباتها. بعد الانقشاع الربيعي الدمشقي، على صحو مبشّر بورشة إصلاح، تحسّباً لأي خريف مقبل، قد تكون الفرصة مناسبة في بيروت، أو حتى الضرورة فيها، لسد تلك العطوبات، وتطبيق قرار الاتكال على الذات أكثر، خصوصاً أن «فكرة» ميشال عون، تستحق من أصحابها أكثر من مجرد الاتكالية.

السابق
“الانباء”:ميقاتي أمهل حلفاءه حتى السبت وإلا كان الاعتذار!
التالي
القذافي كما عرفته وليبيا كما نريدها