القذافي كما عرفته وليبيا كما نريدها

عندما تسلّم العقيد معمر القذافي السلطة عام 1969، كنت طالباً في السنة الثالثة في الجامعة (دار السلام – تنزانيا). وقد رحّبنا بارتقائه إلى سدّة السلطة لأنه كان قائداً يسير على خطى العقيد جمال عبد الناصر في مصر الذي كان له موقف قومي وعروبي. لكن سرعان ما تسبّب القذافي بالمشكلات في ما يتعلق بأوغندا وأفريقيا السوداء.

دعم عيدي أمين

تسلّم عيدي أمين السلطة عام 1971 بدعم من بريطانيا وإسرائيل اللتين وجدتا فيه شخصاً غير مثقّف يمكنهما التحكّم به. بيد أن أمين انقلب على داعميه عندما رفضوا بيعه أسلحة لمحاربة تنزانيا. لسوء الحظ، سارع القذافي، من دون أن يجمع أولاً معلومات كافية عن أوغندا، إلى دعم عيدي أمين. وقد فعل ذلك لأن أمين “مسلم” وأوغندا “بلد مسلم” حيث كان المسيحيون “يقمعون” المسلمين. قام أمين بتصفية عدد كبير من الأشخاص، وقد رُبِط اسم القذافي بالأخطاء التي ارتُكِبت.
في عامَي 1972 و1979، أرسل القذافي قوات ليبية للدفاع عن أمين عندما هاجمناه نحن [الجبهة الوطنية لتحرير أوغندا]. أتذكّر أن قاذفة ليبية من طراز “توبوليف تو-22” حاولت قصفنا في مبارارا عام 1979. لكن انتهى بها الأمر بإلقاء القنبلة في نياروبانغا في بوروندي لأن الطيّارين شعروا بالخوف. لم يستطيعوا الاقتراب لقصف الهدف كما يجب. كنّا قد أسقطنا العديد من مقاتلات “ميغ” التابعة لأمين بواسطة صواريخ أرض-جو. كان إخواننا وأخواتنا التنزانيون يتولّون الجزء الأكبر من هذا القتال. وقد قبضت تنزانيا على عدد كبير من عناصر الميليشيات الليبية وقامت بترحيلهم إلى ليبيا. كان هذا خطأ كبيراً من جانب القذافي وعدواناً مباشراً ضد شعب أوغندا وشرق أفريقيا.

الدفع نحو إنشاء الولايات المتحدة الأفريقية

الخطأ الكبير الثاني الذي ارتكبه القذافي هو موقفه من الاتحاد الأفريقي حيث دعا إلى إنشاء حكومة قارية “في الحال”. وهو يدفع في اتّجاه ذلك منذ عام 1999. السود مهذَّبون دائماً. فهم لا يريدون عادةً إلحاق الأذية بالآخرين. يُسمّى هذا obufura بلغة الرونيانكور أو mwolo بلغة اللوو، أي التعامل بحرص واحترام، ولا سيما مع الغرباء. يبدو أن بعض الثقافات غير الأفريقية لا تتعامل بحرص واحترام مع الآخرين. ترى أحدهم يكلّم شخصاً ناضجاً وكأنّه يتكلّم مع طفل في الروضة. “يجب أن تفعل هذا؛ يجب أن تفعل ذلك؛ إلخ”. حاولنا أن نلفت نظر القذافي بلباقة إلى أن الحاكمية القارية هي أمر صعب في المدى القصير والمتوسّط. بدلاً من ذلك، علينا السعي للتوصّل إلى وحدة اقتصادية أفريقية، وعند الإمكان، السعي أيضاً إلى إقامة اتّحادات إقليمية.
لكن القذافي لم يعدل عن فكرته. ولم يكن يحترم قواعد الاتحاد الأفريقي. وكان يُحيي من جديد مواضيع أو نقاشات عولِجت في اجتماعات سابقة. كان “يلغي” قرارات اتّخذها كل رؤساء الدول الأفارقة الآخرون. كان بعضنا يُضطرون إلى معارضة موقفه الخاطئ علناً، ومن طريق العمل مع الآخرين، هزمنا مراراً وتكراراً موقفه غير المنطقي.

تنصيب نفسه ملك الملوك

الخطأ الثالث كان نزوع القذافي إلى التدخّل في الشؤون الداخلية للعديد من البلدان الأفريقية، عبر استعمال المال القليل الذي تملكه ليبيا بالمقارنة مع تلك البلدان. وأحد الأمثلة الفاضحة كان تورّطه مع القادة الثقافيين لأفريقيا السوداء، من ملوك وزعماء وما إلى هنالك. نظراً إلى أن القادة السياسيين في أفريقيا رفضوا دعم مشروعه بإقامة حكومة أفريقية، ظنّ القذافي بصورة غريبة أنه يستطيع تجاوزهم والعمل مع هؤلاء الملوك لتحقيق رغباته. وقد حذّرتُ القذافي في أديس أبابا من أننا سنتحرّك ضد أي ملك أوغندي يتدخّل في السياسة لأن ذلك يتعارض مع دستورنا. وتقدّمت باقتراح في أديس أبابا بأن نشطب من محاضر الاتحاد الأفريقي كل الإشارات إلى الملوك (القادة الثقافيين) الذين ألقوا كلمات في محفلنا، لأن العقيد القذافي كان قد دعاهم إلى هناك بصورة غير قانونية.

تجاهل محنة جنوب السودان

الخطأ الكبير الرابع ارتكبه معظم القادة العرب، بما في ذلك القذافي إلى درجة معيّنة. وهو على صلة بالمعاناة الطويلة لسكّان جنوب السودان. فعدد كبير من القادة العرب إما ساهموا في تفاقم معاناة السود في ذلك البلد وإما تجاهلوها. وكان هذا الإجحاف مصدر توتّر واحتكاك دائم بيننا وبين العرب. لكن يجب أن أحيّي القذافي والرئيس حسني مبارك لأنهما توجّها إلى الخرطوم قبل الاستفتاء في السودان، ونصحا الرئيس عمر البشير باحترام النتائج.

الإرهاب

أحياناً لا ينأى القذافي ومتشدّدون آخرون في الشرق الأوسط بأنفسهم بما يكفي عن الإرهاب، حتى عندما يناضلون من أجل قضية عادلة. الإرهاب هو استخدام العنف العشوائي، من دون التمييز بين الأهداف العسكرية وغير العسكرية. يبدو وكأن المتشدّدين في الشرق الأوسط، على النقيض من الثوّار في أفريقيا السوداء، يقولون إن أي وسيلة مقبولة ما دمت تحارب العدو. لهذا يختطفون طائرات، ويلجأون إلى الاغتيالات، ويُفخِّخون السيارات، إلخ. لماذا تفجير الحانات؟ الأشخاص الذين يرتادون الحانات يبحثون عادةً عن المرح واللهو، وليست لديهم دوافع سياسية.
كنّا صفاً واحداً مع العرب في النضال ضد الاستعمار. بيد أن حركات التحرير لدى الأفارقة السود تطوّرت بطريقة مختلفة عن الحركات العربية. في الحالات التي استخدمنا فيها السلاح، حاربنا الجنود أو ضربنا البنى التحتية لكننا لم نستهدف قط غير المقاتلين. تؤدّي هذه الوسائل العشوائية إلى عزل نضالات الشرق الأوسط والعالم العربي. سيكون أمراً جيداً إذا تمكّن المتشدّدون في هذه المناطق من ترشيد أساليب عملهم في ما يتعلّق باستخدام العنف بصورة عشوائية.
هذه بعض النقاط السلبية عن القذافي في ما يختصّ بمواطني أوغندا على مر السنين. كان كل من هذه المواقف التي اتّخذها القذافي غير مناسب وغير ضروري.
لكن ومن وجهة نظر موضوعية، كانت للقذافي أيضاً نقاط إيجابية كثيرة من أجل خير أفريقيا وليبيا والعالم الثالث. سوف أعالجها نقطة تلو الأخرى.

القذافي قومي

طبّق القذافي سياسة خارجية مستقلّة، وبالطبع سياسات داخلية مستقلّة أيضاً. أعجز عن فهم موقف البلدان الغربية التي يبدو أنها تمقت القادة المستقلّين في تفكيرهم وتفضّل الدمى. ليس الدمى جيدين لأي بلد كان. معظم البلدان التي انتقلت من العالم الثالث إلى العالم الأول منذ عام 1945 كان لها قادة ذوو تفكير مستقل: كوريا الجنوبية (بارك شونغ-هي) وسنغافورة (لي كوان يو) وجمهورية الصين الشعبية (ماو تسي تونغ، شو إن لاي، دنغ سياد بينغ، المارشال يانغ شانغ كون، لي بنغ، جيانغ زمين، هيو جينتاو) وماليزيا (الدكتور مهاتير محمد) والبرازيل (لويس إيناسيو لولا دا سيلفا) وإيران (الإمامان الخميني وخامنيئي)، إلخ. بين الحربَين العالميتين الأولى والثانية، تحوّل الاتحاد السوفياتي بلداً صناعياً بدفع من جوزف ستالين الديكتاتوري إنما صاحب التفكير المستقلّ. وفي أفريقيا، حظينا أيضاً بعدد من القادة المستقلّين في تفكيرهم: الكولونيل عبد الناصر في مصر، والمعلم نيريري في تنزانيا، وسامورا ماشيل في الموزمبيق وسواهم. هكذا حُرِّرت أفريقيا الجنوبية. وهكذا تخلّصنا من عيدي أمين. جاء وقف الإبادة في رواندا وإطاحة موبوتو سيسي-سيكو في جمهورية الكونغو الديموقراطية نتيجة الجهود التي بذلها قادة أفارقة مستقلّون في تفكيرهم.
القذافي، أياً تكن أخطاؤه، هو قومي حقيقي. أفضّل القوميين على دمى المصالح الخارجية. سمّوا لي بلداً واحداً حيث كانت الدمى محرّكاً للتحوّل. أحتاج إلى بعض المساعدة ممن لهم خبرة في موضوع الدمى للإجابة عن هذا السؤال.
على النقيض، أظن أنه كانت للقذافي ذي التفكير المستقل مساهمات إيجابية لليبيا، وكذلك لأفريقيا والعالم الثالث. لنأخذ مثلاً واحداً: عندما كنّا نحارب الديكتاتوريات الإجرامية هنا في أوغندا، كانت لدينا مشكلة ناجمة عن التعقيد الذي تسبّب به فشلنا في الاستحواذ على ما يكفي من الأسلحة في كابامبا في 6 شباط 1981. فأرسل لنا القذافي شحنة صغيرة من 96 بندقية، ومئة لغم مضاد للدبّابات، إلخ. وكانت مفيدة جداً. لم يستشر واشنطن أو موسكو قبل قيامه بذلك. كان هذا جيّداً لليبيا وأفريقيا والشرق الأوسط. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن استقلالية التفكير التي يتمتّع بها دفعته إلى طرد القواعد العسكرية البريطانية والأميركية من ليبيا.

رفعَ سعر النفط

قبل تسلّم القذافي السلطة عام 1969، كان سعر برميل النفط 40 سنتاً أميركياً. وقد أطلق حملة للتوقّف عن تصدير النفط العربي قبل أن يدفع الغرب مزيداً من المال للحصول عليه. أعتقد أن السعر ارتفع إلى 20 دولاراً للبرميل. وعندما اندلعت الحرب العربية-الإسرائيلية عام 1973، ارتفع سعر برميل النفط إلى 40 دولاراً. ولذلك يفاجئني أن أسمع أن عدداً كبيراً من منتجي النفط في العالم، بما في ذلك بلدان الخليج، لا يُقدِّرون الدور التاريخي الذي أدّاه القذافي في هذا المجال. الثروة الضخمة التي ينعم بها العديد من منتجي النفط هؤلاء يعود الفضل فيها، جزئياً على الأقل، للجهود التي بذلها القذافي. وقد استمرّت البلدان الغربية في التطوّر على الرغم من دفع مزيد من الأموال للحصول على النفط، مما يعني أن الوضع النفطي قبل القذافي كان يتّسم بالاستغلال الشديد للبلدان المنتجة للنفط من جانب البلدان الغربية.

القذافي بنى ليبيا

لم أخصّص يوماً وقتاً كافياً لدراسة الظروف الاقتصادية والاجتماعية في ليبيا. في آخر زيارة لي إلى هناك، رأيت طرقات جيّدة، حتى من الجو. حتى إننا نشاهد في الصور التي تبثّها شاشات التلفزة الثوّار يسيرون في شاحنات على طرقات جيدة جداً برفقة صحافيين غربيين. من بنى هذه الطرقات الجيّدة؟ من بنى مصانع تكرير النفط في البريقة وفي الأماكن الأخرى التي تشهد معارك في الآونة الأخيرة؟ هل بُنيَت هذه المنشآت في عهد الملك وحلفائه الأميركيين والبريطانيين أم بناها القذافي؟
في تونس ومصر، أضرم بعض الشبان النار في أنفسهم لأنهم فشلوا في الحصول على وظيفة. هل يعاني الليبيون من البطالة أيضاً؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا هناك مئات آلاف العمّال الأجانب في ليبيا؟ هل سياسة ليبيا في توفير كل هذا العدد من الوظائف لعمّال العالم الثالث سيّئة؟ هل يقصد كل الأولاد المدارس في ليبيا؟ هل كان الحال هكذا في الماضي، قبل القذافي؟ هل النزاع في ليبيا اقتصادي أم محض سياسي؟ ربما كانت ليبيا لتشهد تحوّلاً أوسع نطاقاً لو أنهم شجّعوا القطاع الخاص أكثر. بيد أن الليبيين في موقع أفضل للحكم على هذا الأمر. في الوقت الراهن، ليبيا بلد متوسّط الدخل يبلغ إجمالي الناتج المحلي فيه 62 مليار دولار.

إنه معتدل

القذافي هو من القادة العلمانيين القلائل في العالم العربي. لا يؤمن بالأصولية الإسلامية، ولذلك تستطيع النساء الليبيات ارتياد المدرسة والانضمام إلى الجيش وما إلى هنالك. إنها نقطة إيجابية تُسجَّل في رصيده.

نصل إلى الأزمة الراهنة، وأودّ انطلاقاً مما تقدّم التوقّف عند بعض المسائل:
أولاً، يجب أن نميّز بين التظاهرات والتمرّدات. يجب ألاّ تواجَه التظاهرات السلمية بالرصاص الحي. بالطبع، حتى التظاهرات السلمية يجب أن تُنسِّق مع الشرطة كي لا تتعدّى على حقوق المواطنين الآخرين. لكن عندما يهاجم ممارسو الشغب مراكز الشرطة وثكنات الجيش بهدف الاستيلاء على السلطة، لا يعودون متظاهرين بل يتحوّلون متمرّدين. ويجب معاملتهم على هذا الأساس. على الحكومة المسؤولة أن تستخدم قوّة منطقية لردعهم. بالتأكيد، الحكومة المسؤولة المثالية هي حكومة ينتخبها الشعب بصورة دورية. إذا كانت هناك شكوك حول شرعية الحكومة، وقرّر الناس إطلاق تمرّد، يجب أن يكون قراراً صادراً عن القوى الداخلية. لا يجدر بالقوى الخارجية أن تدّعي لنفسها هذا الدور، ففي معظم الأحيان لا تملك المعرفة الكافية لاتّخاذ القرارات الصحيحة.
يتسبّب التدخّل الخارجي المفرط بتشوّهات مريعة على الدوام. لماذا تتدخّل القوى الخارجية؟ إنه بمثابة حجب للثقة عن الشعب. يمكن أن ينجح تمرّد داخلي مشروع، إذا كانت هذه هي الاستراتيجيا التي يختارها قادة المجهود. هُزِم شاه إيران من طريق تمرّد داخلي؛ وكانت الثورة الروسية عام 1917 تمرّداً داخلياً؛ وكانت الثورة في زنجبار عام 1964 تمرّداً داخلياً؛ والتغييرات في أوكرانيا وجورجيا وسواها من البلدان كانت كلها تمرّدات داخلية. يجب أن يقرّر قادة المقاومة في البلد المعني استراتيجيّتهم، وليس على الأجانب أن يرعوا مجموعات متمرِّدة في بلدان سيادية.
أنا شديد الحساسية حيال التدخّل الخارجي والسياسي والعسكري في البلدان السيادية، ولا سيما البلدان الأفريقية. لو كان التدخّل الأجنبي جيداً، لوجب أن تكون البلدان الأفريقية الأكثر ازدهاراً في العالم، لأننا حصلنا على الجرعات الأكبر منه عن طريق تجارة العبيد والكولونيالية والنيوكولونيالية والإمبريالية، إلخ. لكن كل تلك الظواهر المفروضة من الخارج كانت كارثية. ولم تبدأ أفريقيا بالارتقاء سوى في الآونة الأخيرة، وأحد الأسباب هو أننا بدأنا نرفض التدخّل الخارجي. لقد تسبّب التدخّل الخارجي ورضوخ الأفارقة له بالجمود في قارّتنا. التعريف الخاطئ للأولويات في بلدان أفريقية عدّة تفرضه في حالات كثيرة مجموعات خارجية. فعدم إعطاء الأولوية للبنى التحتية مثلاً، ولا سيما الطاقة، يعود جزئياً إلى بعض من هذه الضغوط. بدلاً من ذلك، يُروَّج الاستهلاك. لقد شهدت على هذا التعريف الخاطئ للأولويات حتى هنا في أوغندا. فعلى سبيل المثال، تعاونت المصالح الخارجية مع مجموعات داخلية مشبوهة لمعارضة مشاريع الطاقة لأسباب واهية. كيف سيتطوّر الاقتصاد من دون طاقة؟ لا يأبه الخونة وداعموهم الخارجيون لهذا كلّه.
ثانياً، إذا روّجنا تمرّدات مدعومة من الخارج في بلدان صغيرة مثل ليبيا، فماذا نفعل بالبلدان الكبيرة مثل الصين التي يختلف نظامها عن النظام الغربي؟ هل سنفرض منطقة حظر طيران فوق الصين في حال اندلعت تمرّدات داخلية، كما حصل في ساحة تيان آن مين أو التيبت أو أورومتشي؟
ثالثاً، هناك دائماً ازدواجية في المعايير لدى البلدان الغربية. فهي متلهّفة جداً لفرض منطقة حظر طيران في ليبيا. وفي البحرين ومناطق أخرى حيث هناك أنظمة موالية للغرب، تشيح بنظرها عن ظروف مماثلة أو حتى أسوأ. لطالما ناشدنا الأمم المتحدة فرض منطقة حظر طيران فوق الصومال – من أجل الحؤول دون حرّية تنقّل الإرهابيين المرتبطين بتنظيم “القاعدة” الذين قتلوا أميركيين في 11 أيلول، وقتلوا أوغنديين في تموز الماضي، وتسبّبوا بأضرار كبيرة جداً للصوماليين، لكننا لا نلقى آذاناً صاغية. لماذا؟ أليس هناك بشر في الصومال كما في بنغازي؟ أم أن السبب هو أن الصومال لا تملك نفطاً خلافاً لليبيا حيث لا تسيطر الشركات الغربية بالكامل على النفط نظراً إلى قومية القذافي؟
رابعاً، تسارع البلدان الغربية دائماً إلى التعليق على أي مشكلة في العالم الثالث – مصر، تونس، ليبيا، إلخ. لكن بعضها هو الذي عرقل النمو في البلدان المعنيّة. حصل انقلاب عسكري تحوّل شيئاً فشيئاً ثورة في مصر التي كانت تعاني من التخلّف عام 1952. كان القائد الجديد، عبد الناصر، يطمح إلى الإشراف على تحوّل مصر. أراد بناء سدّ لتوليد الكهرباء إنما أيضاً لتحسين نظام الري القديم في مصر. لكن الغرب لم يمنحه المال لأنه اعتبر أن المصريين ليسوا بحاجة إلى الكهرباء. فقرّر عبد الناصر جمع ذلك المال بتأميم قناة السويس. فشنّت عليه إسرائيل وفرنسا وبريطانيا هجوماً. توخّياً للإنصاف، عارض الرئيس الأميركي أيزنهاور ذلك العدوان. وبالتأكيد اتّخذ الاتحاد السوفياتي موقفاً صارماً من الهجوم. ما هي كمّية الكهرباء التي كان هذا السدّ ليُنتجها؟ 2000 ميغاواط فقط لبلد مثل مصر!! فأي حق أخلاقي يملكه أولئك الأشخاص في التعليق على شؤون هذه البلدان؟

خامساً، سوف تؤدّي العادة التي باتت راسخة الآن لدى البلدان الغربية وتتمثّل في الإفراط في استخدام تفوّقها التكنولوجي لفرض الحرب على المجتمعات الأقل تطوّراً، من دون منطق رادع، إلى إطلاق سباق تسلّح في العالم. العمليات التي قادتها البلدان الغربية في العراق وتقودها الآن في ليبيا هي تشديد على أن القوة “على حق”. أنا على يقين من أن عدداً كبيراً من البلدان القادرة على تعزيز أبحاثها العسكرية سوف يعمد إلى ذلك، وفي غضون عقود قليلة، قد يصبح لدينا عالم أكثر تسلّحاً. علوم الأسلحة ليست سحراً. فبلد صغير مثل إسرائيل هو الآن قوّة عظمى في مجال التكنولوجيا العسكرية. لكن قبل 60 عاماً، كان على إسرائيل شراء طائرات “فوغا-ماجيستر” مستعملة من فرنسا. بلدان كثيرة قد تصبح مثل إسرائيل إذا حافظت البلدان الغربية على هذه النزعة القائمة على الإفراط في استخدام الوسائل العسكرية.

سادساً، بصرف النظر عن هذا كله، يجب أن يكون العقيد القذافي جاهزاً للجلوس مع المعارضة في ظل وساطة الاتحاد الأفريقي، وتتمثّل هذه المعارضة بمجموعات تضم الآن أفراداً نعرفهم جيداً. أعرف أن للقذافي لجاناً منتخبة تجتمع في إطار مؤتمر الشعب العام. في الواقع، يعتبر القذافي أن هذا النظام يتفوّق على أنظمتنا المتعدّدة الحزب. بالتأكيد، لم أحظَ قط بالوقت الكافي لدراسة مدى تنافسية هذه المنظومة. في مختلف الأحوال، وحتى لو كانت تنافسية، يعتبر عدد كبير من الليبيين الآن على ما يبدو أن هناك مشكلة في حكم بلادهم. بما أن ليبيا لم تشهد قط انتخابات خاضعة للمراقبة الدولية، ولا حتى من جانب الاتحاد الأفريقي، لا يمكننا أن نميّز الصواب من الخطأ. ولذلك فإن الحوار هو الطريق الصحيح نحو الأمام.
سابعاً، لم تتمكّن بعثة الاتحاد الأفريقي من دخول ليبيا لأن البلدان الغربية بدأت القصف قبل يوم من وصولها. لكن البعثة ستستمرّ. أنا أعتبر أنه إلى جانب بعثة الاتحاد الأفريقي، قد يكون من المهم الدعوة إلى انعقاد قمة استثنائية في أديس أبابا لمناقشة هذا الوضع الخطير.

ثامناً، في ما يتعلّق بالمعارضة الليبية، كنت لأشعر بالإحراج مكانها لحصولي على الدعم من طائرات حربية غربية. لم يكن الخونة الذين يبيعون أوطانهم من أجل المصالح الخارجية، نافعين لأفريقيا يوماً. وقد كانوا كثراً في الأعوام الخمسين الماضية، موبوتو سيسي سيكو، وهوفويه بوانيي وكاموزوا باندا، إلخ. ارتكب الغرب أخطاء كثيرة في أفريقيا والشرق الأوسط في الماضي. فإلى جانب تجارة العبيد والكولونيالية، شارك في قتل باتريس لومومبا الذي كان القائد المنتخب الوحيد في جمهورية الكونغو الديموقراطية، ودسّ السم للقائد السياسي الكاميروني فليكس مومي، واغتيال رئيس الوزراء في جمهورية أفريقيا الوسطى، بارثولوميو بوغاندا.
دعم الغرب حزب “يونيتا” في أنغولا، وعيدي أمين – في بداية حكمه – في أوغندا، ومناهضي الثوّار في إيران عام 1953. وقد سُجِّل أخيراً بعض التحسّن في أنماط السلوك المتعجرفة لبعض هذه البلدان الغربية. لا شك في أن العلاقات جيّدة مع أفريقيا السوداء، ولا سيما أوغندا، عقب الموقف العادل الذي اتّخذه الغرب حول مصير السود في جنوب السودان. مع انتشار الدمقرطة في جنوب أفريقيا وحصول السود على الحرّية في جنوب السودان، زال الخلاف بين الوطنيّين في أوغندا والحكومات الغربية. لكن لسوء الحظ، بدأت العمليات المتهوِّرة ضد ليبيا تثير مشكلات جديدة. ويجب المبادرة فوراً إلى إيجاد حلّ لها.
تاسعاً، إذا كانت المجموعات الليبية المعارضة وطنية حقاً، يجب أن تخوض حربها وتدير شؤونها بنفسها. فقد استولت بسهولة على قدر كبير من العتاد والتجهيزات الخاصة بالجيش الليبي، فلماذا تحتاج إلى الدعم العسكري الأجنبي؟ كنت أملك 27 بندقية فقط. ليس جيداً أن نكون دمى في أيدي الآخرين.

عاشراً، في ما يختص بالمجتمع الدولي، لقد صوّت الأعضاء الأفارقة في مجلس الأمن على القرار حول ليبيا، في خطوة تتعارض مع القرار الذي اتّخذه مجلس السلم والأمن الأفريقي في أديس أبابا أخيراً. وحدها قمّة استثنائية للاتحاد الأفريقي كفيلة بحل هذه المسألة. إنه أمر جيّد أن بعض البلدان الكبرى في مجلس الأمن – روسيا والصين والبرازيل والهند – امتنعت عن التصويت على هذا القرار. يُظهر هذا أن هناك قوى متوازنة في العالم سوف تُطوِّر، من خلال مزيد من الاستشارات، مواقف أكثر صحّة.
أحد عشراً وأخيراً، بما أننا أعضاء في مجلس الأمن، نحن ملزمون بالقرار الذي اعتُمِد، ولو أنه كان متسرّعاً. لكن هناك آلية للمراجعة. يجب أن تنظر البلدان الغربية التي تنشط أكثر من سواها في هذه العمليات المتهوِّرة، في سلوك هذا الطريق. فقد يُتيح لنا ذلك التخلّص من كل التعقيدات البغيضة الممكنة. ماذا لو قرّر الليبيون الموالون للقذافي القتال؟ استخدام دبّابات وطائرات يسهل استهدافها من الطائرات التي يُرسلها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ليس السبيل الوحيد للقتال. من سيكون مسؤولاً عن مثل هذه الحرب المطوَّلة؟ حان الوقت لنفكّر بتأنٍّ أكبر.
(النهار)

السابق
وأصدقاء سوريا، انكشفوا أيضاً
التالي
عندما تعصف رياح الشرق بغطرسة الغرب