إسرائيل..والتغيير السياسي في العالم العربي

يحاول قادة إسرائيل وزعماؤها طمأنة أنفسهم أولاً وجمهورهم ثانياً ثم دول العالم، بالقول إن ما يشهده العالم العربي من ثورات وانتفاضات شعبية وحركات احتجاج وتغييرات سياسية جذرية لا علاقة له بالنزاع مع إسرائيل ولا بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ولا بالقضية الفلسطينية، إنما يعود كما أظهرت الوقائع الى أسباب ومشكلات داخلية عربية بحتة والى أزمة الأنظمة العربية، وهو دليل على عدم الاستقرار في المنطقة، مما يؤكد مرة أخرى وجهة نظرهم القائلة إن إسرائيل هي الدولة الديموقراطية والمستقرة الوحيدة في منطقة تعصف بها رياح الثورات والانقلابات والتغييرات.
على رغم ذلك تعترف إسرائيل بأن ما يجري هو من أخطر المراحل التاريخية التي تمر بها منذ عقود، وأن حال الغموض وعدم الاستقرار اللذين تشهدهما دول المنطقة لهما انعكاساتهما عليها، الأمر الذي بات يتطلب منها إعادة نظر عميقة وشاملة للتوجهات الاستراتيجية الاساسية التي طبعت سياستها في العقود الأخيرة، ومحاولة استخلاص الدروس المترتبة عما يحدث حول إسرائيل وتأثيراتها في مستقبل وجودها في المنطقة.
هناك وجهتا نظر في إسرائيل حيال ما يحدث في العالم العربي بعامة ومصر بخاصة. ففي رأي الخبيرة في الشؤون التركية جيلا ليندنشترواس، هناك دعاة "الانكفاء" الذين يقولون إن على إسرائيل أن تنكفئ على نفسها وتقف موقفاً دفاعياً حتى عبور العاصفة؛ وفي المقابل هناك من يرى أن تطور الأحداث يفرض على إسرائيل الاقدام على خطوة شجاعة من أجل حل نزاعها مع الفلسطينيين ومع سوريا. وليس من قبيل المصادفة ان يكون دعاة الانكفاء هم المعارضون للتسوية والرافضون تقديم تنازلات للفلسطينيين أو القيام بانسحابات، وأن يكون أصحاب وجهة النظر الثانية من المؤيدين للإنسحاب من المناطق في مقابل السلام.
لم يكن في إمكان إسرائيل إخفاء قلقها الكبير مما جرى في مصر، ومعارضتها الواضحة للموقف الأميركي المؤيد لمطالب المحتجين في مصر والداعم لتنحي حسني مبارك. وكان لسقوط نظام حسني مبارك انعكاساته العميقة على أكثر من مسألة استراتيجية أساسية بالنسبة الى إسرائيل في طليعتها مستقبل معاهدة السلام في ظل القوى السياسية الجديدة التي ستحكم مصر، وعودة خطر الجبهة الجنوبية في ظل احتمال وصول قوى سياسية الى الحكم في مصر معادية لإسرائيل مثل "الإخوان المسلمين" وتأثير ذلك في الوضع الأمني على الحدود بين مصر وقطاع غزة.
كما طرح موقف الإدارة الأميركية الداعم للثورات العربية أكثر من علامة استفهام على مستقبل الشركة الاستراتيجية التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، في ظل تخلي الإدارة الأميركية عن حلفائها التقليديين تحت الضغط الشعبي، وأثار الكثير من الشكوك في مدى قدرة إسرائيل على الاعتماد على الدعم الأميركي خلال الأزمات والمحن.

مستقبل التحالف مع اميركا

شكل التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة أحد المبادئ الأساسية في كل برامج الحكومات الإسرائيلية. فلولا هذا الدعم الأميركي اللامحدود والشركة الاستراتيجية التي جمعت بين البلدين لما استطاعت إسرائيل الصمود في نزاعها العسكري مع الدول العربية.
لا تقوم هذه الشركة الاستراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة على المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين فحسب، ولا على الدور الذي تؤديه إسرائيل بوصفها "حامية" للمصالح الأميركية في المنطقة، إنما تستند أيضاً في صورة خاصة الى النفوذ الكبير الذي يتمتع به اللوبي اليهودي داخل المؤسسات السياسية الأميركية، لا سيما في مجلسي الكونغرس والشيوخ، داخل المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، ووسط شبكة وسائل الإعلام، وعالم اصحاب الثروات ورجال الأعمال الذين يحتاج السياسيون على اختلاف انتماءاتهم السياسية الى دعمهم.
منذ وصول المرشح الديموقراطي باراك أوباما الى البيت الأبيض وجدت الحكومة الإسرائيلية اليمينية برئاسة بنيامين نتنياهو نفسها في مواجهة مع توجهات الإدارة الجديدة الراغبة في المصالحة مع العالمين الإسلامي والعربي، والراغبة كذلك في تحقيق تسوية الدولتين لشعبين في أقرب وقت ممكن. وبرز الخلاف حاداً بين نتنياهو وأوباما أكثر من مرة خلال العامين الفائتين، واتخذ مظهره الأعنف عندما رفض نتنياهو نهاية العام الفائت طلب الإدارة الأميركية تمديد تجميد البناء في المستوطنات ثلاثة أشهر أخرى مما أدى الى توقف المساعي الأميركية الرامية الى معاودة المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. يومها اعتبرت حكومة نتنياهو أنها حققت "انتصاراً" على إدارة أوباما التي سارعت بعد ذلك الى إبداء عدم حماستها لمواصلة وساطتها، مما أدى إلى توقف المساعي الأميركية لاستئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وحتى الفيتو الأخير الذي استخدمته الولايات المتحدة ضد إصدار مجلس الأمن قراراً يدين الاستيطان، جاء على مضض، ومن دون حماسة فعلية من الأميركيين.
أثار تخلي إدارة أوباما عن أهم حليف لها في المنطقة حسني مبارك شكوك إسرائيل في مدى قدرتها على الاعتماد على تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في ضوء التغييرات الكبيرة والجذرية التي تعصف بالعالم العربي وفي صورة اساسية في ظل متغيرَين أساسيين: الأزمة بين حكومة نتنياهو وإدارة أوباما، وتزايد الدعم الدولي الذي يحظى به تحرك السلطة الفلسطينية من أجل اعتراف الأمم المتحدة في أيلول المقبل بالدولة الفلسطينية المستقلة.
وفجّرت الثورة في مصر الخلافات الحادة في المواقف بين الإسرائيليين والأميركيين. فقد شكك الإسرائيليون ضمناً وعلناً بالثورة المصرية وعمدوا الى تضخيم دور "الإخوان" والاخطار المترتبة على وصولهم الى السلطة في مصر، وانتقدوا بشدة عبر صحافتهم سياسة الرئيس أوباما حيال مصر، و اعتبرها أكثر من معلق وخبير إسرائيلي سياسة تفتقر إلى الخبرة والتجربة في العالم العربي، وتشكل خطراً جدياً على الاستقرار في المنطقة وعلى المصالح الإسرائيلية الغربية على حد سواء. ولم يخفف من غلواء الحملة الإسرائيلية على إدارة أوباما سوى اقتناع الإسرائيليين بأن ما يجري في مصر لا قدرة لأي قوة خارجية على الوقوف في وجهه، وأن حكم حسني مبارك بات من الماضي.

الثورات تقوض الشرق الأوسط القديم

أشعرت الوتيرة السريعة لانتقال حركات الاحتجاج العربية من تونس الى مصر وليبيا واليمن والبحرين وفي المرحلة الأخيرة سوريا، إسرائيل بحاجتها الملحة الى التفكير في بلورة موقف مختلف من التوجهات الأميركية في المنطقة التي قد تبدو ظاهرياً غير متطابقة مع مصالحها في المنطقة. وفي مطلق الأحوال ليس في وسع إسرائيل التأثير في ما يجري. وإذا كان من السهل على إسرائيل أن تقف موقف المدافع عن حكم حسني مبارك نظراً الى التاريخ الطويل من التعاون بين النظام المصري وبين إسرائيل، فإنها لاقت صعوبة في تحديد موقفها من النزاع الدموي الذي غرقت فيه الثورة الليبية ضد حكم معمر القذافي. فوجدت إسرائيل نفسها عاجزة عن الدفاع عن بقاء أحد أكثر الحكام العرب عداء لها أي القذافي، لكن تخوفها كان كبيراً من ان يكون من يرثه في الحكم أكثر تطرفاً منه وعداء لإسرائيل. وأثار التدخل العسكري الدولي دفاعاً عن الثوار الليبيين ضد القوات الموالية للعقيد القذافي أكثر من سؤال داخل إسرائيل التي تخوفت في صورة خاصة من تعاظم الدور الذي اضطلعت به الدول الأوروبية الكبرى في العملية العسكرية ضد ليبيا خاصة فرنسا وبريطانيا، وتفضيل الولايات المتحدة عدم الاضطلاع بمسؤولية قيادة التحالف الغربي ضد ليبيا. وفسرت إسرائيل الموقف الأميركي بأنه مؤشر آخر الى تخلي واشنطن عن إدارة العملية السياسية الشرق الاوسط، بعد تخليها عن العملية التفاوضية بين إسرائيل والفلسطينيين. وتوقع اكثر من معلق إسرائيلي أن ينعكس تعاظم الدور الأوروبي في المنطقة في وقت قريب سلباً على إسرائيل من خلال التأييد الدولي الذي قد يحظى به قرار الاعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المنتظر أن يطرح في أيلول المقبل على الأمم المتحدة خلال انعقاد جمعيتها العمومية. ناهيك بسابقة التدخل العسكري الأجنبي الذي يحدث للمرة الأولى لنجدة ثورة ضد حاكم مستبد، واحتمال أن يتكرر ذلك في أماكن أخرى في العالم العربي.
من جهة أخرى، حاولت إسرائيل توظيف التوتر المتصاعد بين إيران والسعودية وسائر دول الخليج على خلفية الثورة في البحرين لمصلحتها، وكي تؤكد مرة أخرى أن الخطر الحقيقي الذي يتربص بدول الخليج هو إيران وليس النزاع العربي الإسرائيلي. لكن احتدام النزاع المذهبي في البحرين، والمخاوف التي اعترت إسرائيل من مغبة وصول الاضطرابات الاحتجاجية الى دول الخليج وتعريض أمن الدول النفطية للخطر وما قد ينجم عن ذلك من أزمة نفطية قد تدفع إسرائيل ثمنها ارتفاعاً في أسعار النفط، كل ذلك جعلها تنكفئ عن التعبير علناً عن موقفها.
أما ما يحدث في سوريا، فأثار القلق داخل إسرائيل من إمكان تعرض نظام الأسد لخطر السقوط. فعلى رغم عداء النظام السوري الشديد لإسرائيل، وتحالفه المتين مع إيران والدعم الكبير الذي يقدمه هذا النظام الى "حزب الله"؛ ثمة اعتبارات أخرى تأخذها إسرائيل في الاعتبار مثل كون جبهة الجولان هي الجبهة الأهدأ منذ اتفاق فصل القوات، ناهيك بالخبرة الكبيرة التي اكتسبتها إسرائيل في التعامل مع هذا النظام. لذا كما ان اقتراب الثورة العربية من سوريا من شأنه أن يهدد الستاتيكو الذي أقامته إسرائيل على حدودها الشرقية مع سوريا.
في رأي المعلقين الإسرائيليين أن النتيجة المباشرة لأي تحرك احتجاجي في سوريا، سينعكس مزيداً من التطرف والتشدد من جانب الرئيس الأسد حيال إسرائيل وسيضعف كثيراً من احتمالات التسوية السلمية مع سوريا في الأمد المنظور.
بيد أن الخوف الأكبر في إسرائيل هو من انتقال موجات التظاهرات الشعبية الى الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد الاحتلال، ومن اجل المطالبة بالدولة الفلسطينية المستقلة. ففي حال انتقلت عدوى الاحتجاج الشعبي السلمي الى الشارع الفلسطيني – وقد ظهرت بشائره في التظاهرات في الضفة وغزة الداعية الى انهاء الانقسام -، وغرقت الشوارع بالرجال والنساء والأطفال العزل الذين سيسيرون الى الحواجز الإسرائيلية مطالبين بإزالتها، فبماذا سترد إسرائيل؟ هل تقوم باعتقالهم؟ أم تطلق النار عليهم؟ وماذا سيكون رد فعل العالم؟
يقول الصحافي أري شافيط في "هآرتس" إن الشرق الأوسط بعد كانون الثاني 2011 لم يعد يشبّه ما كان عليه قبل ذلك. وهو يحمّل الرئيس أوباما تبعة ما يجري، فقد كان عليه بحسب رأيه أن يبني نظاماً جديداً للشرق الأوسط قبل انهيار النظام القديم.
أمام مشهد التغييرات الهائلة التي تطرأ على العالم العربي، يزداد الشعور داخل إسرائيل بصعوبة بقائها في منأى عن حركة التغيير الكبرى التي تجتاح المنطقة. فزمن الثورات سيجعل من الصعب أكثر فأكثر قبول العالم باستمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية، ومواصلة فرضها الحصار على غزة، والتحكم في حياة الفلسطينيين وتحويل القطاع سجناً كبيراً.
كما يتخوف الإسرائيليون من اضطرارهم الى دفع ثمن التأييد العربي للتدخل العسكري الأجنبي ضد قوات القذافي في ليبيا وذلك من طريق دفعها الى حضور مؤتمر دولي للسلام مثلما حدث العام 1991 عندما اضطر رئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق شامير الى حضور مؤتمر مدريد بعد الحرب الأولى التي شنها التحالف الغربي بتأييد الدول العربية على العراق.
على رغم هذا كله، ليس من المنتظر من الحكومة الإسرائيلية الحالية أن تُقدم على أي خطوة سياسية تجاه الفلسطينيين قد تساهم في تحريك مسار تحقيق الدولتين. والراهن حالياً، أن إسرائيل ستحاول أن تتحصن وراء مواقفها المبدئية، وستستغل الهجمات الفلسطينية الأخيرة على مواطنيها وسقوط صواريخ على أراضيها كي تقنع العالم بعدم وجود شريك فلسطيني للسلام ، وأنها مضطرة الى الدفاع عن بقائها، وعدم تقديم تنازلات يمكن أن تُفسر من عالم عربي مضطرب ومتقلب بأنها علامة ضعف.

السابق
“حزب الله” يستشعر “مخاطر” تدفعه إلى إطلاق دعوة التعجيل بولادة الحكومة
التالي
القرار 1929..والسلاح