تطوير الشريعة ما بين الدينيّ والسياسيّ

كيف ينظر الاب الدكتور جورج مسوّح الى مسألة تطوير الشرعة في الديانة الاسلامية من وجهة نظره كباحث؟

ثمّة إشكاليّة في الفكر الإسلاميّ المعاصر تحاول رسم معالم العلاقة ما بين الدولة المعاصرة وتطبيق الشريعة الإسلاميّة. أمّا التفكّر بهذه الإشكاليّة فإنّما بدأ في القرن التاسع عشر، أي قبل إلغاء الخلافة بنحو قرن من الزمان، ومع بدء ما يسمّى بعصر النهضة العربيّة.

يُجمع المفكّرون المسلمون على القول بضرورة تطوير الشريعة من داخلها، واعتمادها أساسًا للتشريع والحكم في الدول الإسلاميّة. أمّا الأساليب التي يجب اتّباعها في عملية التطوير فيأتي على رأسها الاجتهاد المحصور بالعلماء المؤهّلين للقيام بتلك المهمّة. لا يمكننا، إذًا، أن نفترض قبولاً بالفصل ما بين الدولة والشريعة في الإسلام لدى معظم المفكّرين الإسلاميّين والفقهاء.

لعلّ رفاعة الطهطاوي (ت 1873) هو أوّل مَن دعا، من بين كتاب عصر النهضة، إلى تفسير الشريعة تفسيرًا يتّفق مع حاجات العصر، وآمن بإمكانيّة أن تتكيّف الشريعة وفقًا للظروف الجديدة. لا ريب في أنّ الطهطاويّ، الذي أقام في باريس خمس سنوات (1826-1831)، قد تأثّر بفكر عصر الأنوار الأوروبيّ، لكنّه ظلّ يعتقد أنّ الإصلاح لا بدّ أن يمرّ عبر الشريعة، لا بالخروج عنها. ففيما يخصّ العلاقة مع غير المسلمين لم يكفَّ الطهطاوي عن تسمية غير المسلمين بـ”أهل الذمّة”، على شرط اتّخاذ الموقف الأكثر تساهلاً معهم، ومنحهم الحرّيّة الدينيّة الكاملة. لذلك، أيّ تطوير للعلاقات مع غير المسلمين يجب أن يتمّ من ضمن الشريعة.

كان جمال الدين الأفغانيّ (ت 1897) يؤمن بسيادة الشريعة على المجتمع والدولة، وبضرورة وجود حاكم عادل يخضع بدوره لسيادة الشريعة. كما آمن الأفغانيّ، مع اعترافه بالتضامن القوميّ أو الوطنيّ، بأنّ “ما من نوع من أنواع التضامن الطبيعيّ، ولا حبّ الوطن، يمكنه أن يحلّ في قلوب المسلمين محل الرابطة التي خلقها الإسلام. وأكّد أيضًا أنّ ما وحّد الأمة الإسلاميّة في الماضي إنّما هي مؤسّسة الخلافة السياسيّة وجماعة العلماء المحافظين على العقيدة الصحيحة”.

من النافل القول إنّ الشيخ محمّد عبده (ت 1905) هو أهمّ مفكّري الإصلاح الإسلاميّ. وفي المسألة التي نعرض لها اليوم، كان عبده “يقبلبأن تتمتّع الدولة بقدر كبير من الحرّيّة في تشريعها، لكنّه كان يفترض أنّ الشرائع الحديثة ستنمو من ضمن الشريعة، لا باستقلال عنها، فضلاً عن أنّه كان يريد مشاركة متساوية، لا انفصالاً، بين الحكّام وحراس الشريعة (علماء الدين). وكان أيضًا موافقًا على أن يتمتّع غير المسلمين بالمساواة القانونيّة والاجتماعيّة التامّة، شرط أن تبقى الدولة دولة إسلاميّة”.

صحيح أنّ العديد من المفكّرين المسلمين حاولوا الاجتهاد في هذه المسألة، لكنّ واقع المجتمعات الإسلاميّة قد تقهقر نسبةً إلى التحدّيات المتجدّدة التي فرضتها الحداثة والعصر الحديث والعولمة، وعدم مواكبة الفكر الإسلاميّ لما يدور حوله من أحداث وتطوّرات. فاكتفت المؤسّسات الدينيّة بامتداح الفكر التقليديّ الوسطيّ، وجعلته السقف الذي لا يمكن تجاوزه، بدلاً من أن تجعله القاعدة التي تبني عليها فكرًا إسلاميًّا معاصرًا يقدّم أجوبة تلائم الحياة المعاصرة، وتُخرج هذه المجتمعات ممّا يعيقها عن اللحاق بركب الحضارة العالميّة.

لا ريب أنّنا نأمل خيرًا ببعض المبادرات الأخيرة على صعيد التفكّر في كيفيّة تطوير العلاقات ما بين الدولة وتطبيق الشريعة. لكن لا يمكن الاكتفاء ببيانات ذات طابع سياسيّ تدعو إلى الدولة العصريّة العادلة، والمساواة التامّة بين المواطنين كافّة، بل ينبغي بالمؤسّسات الدينيّة أنّ تسعى إلى تأصيل دينيّ في مسألة الدولة والشريعة كي يكون لكلامها مرجعيّة فقهيّة ثابتة، لا سياسيّة متغيّرة.

السابق
المردة: مصلحة المسيحيين في النسبيّة الكاملة
التالي
العقوبات الأمريكية تطال «نصرالله»