السيد محمد حسن الأمين: لا حرية دون الغاء استعباد المجتمع لأفراده

سوف يبقى موضوع الحرية مطروحاً رغم كل ما قالته فيه الفلاسفة والشعراء وعلماء الاجتماع وليس عبثاً أن يتجدد القول في الحرية وأن يكون لكل فترة أو مرحلة معيّنة رؤيتها الخاصة لمسألة الحرية سواء كانت تعني الفرد أو المجتمع أو الدولة.

برأي سماحة العلامة المفكر الاسلامي السيد محمد حسن الامين ان الأمر في نظرنا يتصل بماهية الحرية التي تتغير النظرة إليها وفق المتغيرات والمستجدات التي يشدها الاجتماع البشري، فيقول “لا أعتقد حتى الآن أن أحداً استطاع أن يقدم تعريفاً نهائياً وناجزاً لمفهوم الحرية وقواعدها. لذلك أريد أن ألفت النظر إلى أن أكثر مجال يجري فيه الحديث عن الحرية هو المجال السياسي، وخاصة العلاقة بين السلطة والشعب، وفي هذا المجال ثمة درجات عالية من الحرية قد تحققت في إطار الشعوب الغربية بشكل خاص، ولذلك فإن الكلام عن الحرية بهذا المعنى، أي سلطة وشعب أصبح قليلاً في المجتمعات الغربية بخلاف مجتمعاتنا العالم ثلاثية وفي العالم العربي والإسلامي بصورة خاصة، وذلك أن هذه الاشكالية ما زالت قائمة في عالمنا وما زالت شعوبنا تعاني من أزمة فقدان الحريات في علاقتها مع سلطاتها، بل ما زالت السلطة عندنا تستند في أغلب الأحوال إن لم نقل في كلها إلى قاعدة القهر والغلبة”.

اقرأ أيضاً: السيد الأمين: شعوبنا تحتاج إلى ثورة ثقافية لكسر العبودية

ويوضح السيد الامين ان “الكلام على الحرية في هذا الوضوح يجب أن يستمر وصولاً إلى تحقيق مبدأ الحرية في اختيار السلطة وفي تداول السلطة، إلا أن ما أراه جديداً وما ينبغي الالتفات إليه والتأكيد عليه هو نوع آخر من الحرية في مواجهة عبودية أخرى غير عبودية السلطة، وهو عبودية المجتمع للفرد، فالفرد في مجتمعاتنا ما زال مجرد رقم، وما زال الخروج على عادات المجتمع وتقاليده ومسلماته أمراً يعرض الفرد لأشكال لا حدود لها من العقوبات المعنوية، إن لم نقل إلى العقوبات المادية، وهذا يعتبر أقصى درجات العبودية.”

لماذا أطرح هذا الموضوع؟
يجيب السيد الامين “إن المنجزات الإيجابية التي تتحقق فيها مناهج التقدم والإبداع، والتي تغدو فيما بعد سمة للمجتمع كله إنما تبدأ من الأفراد، والأفراد المحكومون بتقاليد المجتمع ومسلماته الموروثة لا يمكنهم أن يحققوا ما يعتمل في داخلهم من رؤى وتطلعات ومواهب حذراً من أن تصتدم بمسلمات المجتمع وتقاليده”.

الحرية بين "موت الله" وعبوديته
ويستطرد السيد الامين بقوله “يحسن أن نشير في هذا المجال إلى رؤية المجتمع للأديان وما تقوم به هذه المجتمعات من إسقاط المقدس الديني على كل رؤية أو فكرة جديدة، وإذا أردت أن أورد مثالاً على ذلك، فإني أورد مثالاً معروفاً، وهو موقف أحد رجال الدين، أو بضعة منهم تجاه مقولة الصعود إلى القمر بواسطة مركبة فضائية ونفيها، ومن المؤسف أن هذا الموقف من بعض رجال الدين قد انعكس على شريحة من الرأي العام، وهذا مجرد مثال أردت من خلاله أن أضرب مثلاً على الدور الاستبدادي للمجتمع تجاه الفرد.”

ويعلن السيد الأمين بذلك عن استغرابه لـ”آفة الاستسلام لتقاليد المجتمع وعاداته ومفاهيمه، بالرغم من أن ما في الأدبيات الإسلامية وعلى رأسها القرآن الكريم تؤكّد على مسؤولية الفرد، فالفرد مسؤول أمام الله بوصفه فرداً، وقوله “ولا تزروا وازرة وزر أخرى”، وآيات أخرى كثيرة لا مجال لاستعراضها تؤكد على مسؤولية الفرد أمام الله تعالى، وبالرغم من ذلك فإن الأفراد في المجتمع الإسلامي لا يعطون حقهم من الحرية لا في التفكير ولا في العمل، ولا في المغايرة، وهذا ينعكس على المجتمع كله انعكاسًا سلبياً، فمجتمع أفراده غير أحرار لا يمكن أن يكون مبدعاً ومتقدماً وسيبقى يدور في دائرة مغلقة يجتر فيها الأفكار السائدة والقيم العامة التي يقدسها المجتمع، وقد يأتي من يقول لك، إن مجتمعاً يمنح الحرية المطلقة لأفراده سوف ينتهي به الأمر إلى الكفر أو على الأقل إلى ضعف البنية القيمية الأخلاقية التي يحرسها المجتمع، غير ملتفتين إلى أن حرية الفرد، إذا كانت تتسم بشيء من السلبية، فإن إيجابياتها الكبرى تجعلنا قادرين على معالجة هذا الأثر المحدود من السلبيات، أما التسلط على الفدر وعلى أفكاره وإمكاناته فإنها تحرمنا الكثير الكثير من الإيجابيات المهنية للارتقاء بالمجتمع.”

ويشرح السيد الامين موسعا الفكرة مقارنة مع الغرب فيقول “إن جان جاك روسو الفرنسي لم يكن ممكناً أن يكتب كتابة “العقد الاجتماعي” لولا مساحة الحرية التي مكّنه المجتمع من امتلاكها، وهذا مثل واحد على مئات الأمثلة في مجال الشرائع والعلوم الاجتماعية وحتى التقنية. بل أكاد أقول أن عصر الأنوار لم يكن لتنتجه أوروبا بدون أعداد قليلة متميزة وممتازة من ملاسنتها ومفكريها وعلمائها.”

أما عن لبنان كحالة طائفية خاصة ممزوجة بشيء من الحرية فيقول السيد الامين “في الانتقال إلى نموذج هو خليط أو مزيج من مفهوم الحرية للفرد تجاه السلطة وتجاه المجتمع في آن واحد، أريد أن أتحدث عن الحرية في وطني لبنان الذي قد يحسدنا عليه بعض الشعوب العربية إن لم أقل كلها لأننا في نظرهم نمتلك نظاماً ديموقراطياً ودرجة عالية من الحريات السياسية والاجتماعية وشعبية أي الفردية لأقول لهذه المجتمعات العربية أن ما تغبطونا عليه هو أمر منشؤه أزماتكم وواقعكم الصعب تجاه سلطاتكم المستبدة من جهة، وعدم إدراككم لطبيعة الأزمات التي يواجهها اللبنانيون تجاه أنفسهم وتجاه سلطاتهم.

نحن لسنا وطناً موحداً ولا شعباً موحّداً، نحن مجموعة من الطوائف والأديان والمذاهب ننادي بالعيش المشترك ولكننا لا نمارسه، ونحن حتى اليوم لا نعرف مفهوم المواطنة كما تعرفه الشعوب المتقدمة والتي هي أكثر تنوعاً وتعدداً على الصعد الدينية والطائفية منّا. ولكنها استطاعت أن تحقق مفهوم المواطنة، والمواطنة فيما تعنيه، تعني أن كل عضو أي كل مواطن في الاجتماع السياسي هو عضو يملك الحقوق نفسها وتقع عليه الواجبات نفسها التي تقع عن الآخر.

أما في لبنان فإن الفرد فيه يولد مقيداً ومحاصراً بقيد طائفته أو مذهبه، وهو بالتالي ليس عضواً في الاجتماع السياسي الكبير، إنه عضو في المذهب الذي ينتمي إليه، فهو بهذا المعنى لا يعيش تحت سقف الدولة، بل تحت سقف أدنى من الدولة، هو الطائفة الذي ينتمي إليها، أم الدولة فهي سقف آخر لا يتعامل مع الأفراد بوصفهم أعضاء متساوين في المواطنة، بل يتعامل مع ممثلي الطوائف والدولة بإمكاناتها هي مجموعة حصص يتقاسمها ممثلو هذه الطوائف ويستخدمون، أي ممثلو الطوائف حصص الدولة هذه لتكريس زعاماتهم داخل طوائفهم مما يجعلهم قادرين على فرض هيمنتهم وسيطرتهم، ويمكن لممثل طائفة معينة أن يستنفر طائفته في مواجهة الحكومة والدولة عندما يتعرض شخصه لما يعتبره إهانة أو أمراً غير لائق بموقعه التمثيلي، وبحكم كونه مالكاً لمنافع الدولة، وظائفها حصرياً فإن الطائفة أو المذهب الذي ينزعمه يستجيب لهذا الاستنفار”.

اقرأ أيضاً: السيد محمد حسن الأمين: الاسلام عقيدة عقلانية وليس أيديولوجيا عمياء

ويخلص السيد الامين الى نتيجة محبطة في لبنان وهي “ان أفكار الحرية وتجديد النظام وإبعاد الطائفية السياسي عن مجال الدولة فهي أمور محاصرة، والاستبداد عندنا مزدوج يمارسه الحاكم بواسطة الطائفة وتمارسه الطائفة بإسناد الحاكم، وتبقى دائرة التحرر من هذا النظام دائرة ضيقة لا تتسع لكتلة وطنية قادرة على الفعل والتغيير”.

السابق
الدكتور سكرية: التجارة تطغى على الدواء ولا بدّ من «النسبية»
التالي
ألمانيا تصف رجب طيب أردوغان بالسخيف