غداً الرئيس «القوي»

لواقعة انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية يوم غد الإثنين، بعدٌ ملحمي لم تقترب منه التعليقات الهائلة التي راحت منذ أكثر من أسبوع تصف الحدث بتقاطعاته السياسية والعاطفية.

ثمة جنرال انتظر الرئاسة أكثر من 26 عاماً، وها هي جاءته بعد أن بلغ الحادية والثمانين. لم يكن الانتظار فعلاً سياسياً، إنما أقرب إلى تراجيديا فردية لا ينفع معها ما شُهر في وجه الجنرال من مشاهد تعاقبت على مرحلة الانتظار. صوره في قصر بعبدا قبل ساعات من هربه منه وهو يتعهد أن لا يغادره إلا جثة، وقبلها صورته في منطقة المتحف خلال الاجتياح الاسرائيلي، ومشاهد من سنوات انتظاره المديدة في منفاه الباريسي، وجهوده خلالها مع الكونغرس الأميركي لانتزاع قرارات ضد حلفائه الحاليين، أي «حزب الله» والنظام السوري، ومقال كاتب في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية يزعم أنه صديق عون ووسيط سابق بينه وبين الحكومة الإسرائيلية خلال مرحلة المنفى.

كل هذا ليس سياقاً سياسياً في حالة الجنرال، بل أقرب إلى عناصر السيرة والتراجيديا، واللبنانيون بانتظار انبعاث شخصية لا تمت إلى ما يعرفونه من السياسة، ليس لأن الرجل سيباشر حكماً من خارج القيم الرثة للسياسة في بلدهم، بل لأنه من خارج السياسة فعلاً. رجل ثمانيني تنطوي سيرته على ما لا يُشكل سياقاً يمكن القياس عليه. ثم إنه آتٍ إلى القصر بعد أن تضاءلت الرئاسة وتقاسمها قبل وصوله إليها حلفاء وخصوم لن يتمكن الرجل من كسر شوكتهم.

الأرجح أننا سنكون أمام عهد فيه مسٌ من خرافة. ربما انبعاث شكلي لرحبانية تتوهم الحكم ولا تمارسه. ومن المفيد هنا استعادة ما كتبته مراسلة «بي بي ســـي» ندى عبدالصمد التي رافقت الجنرال في الطائرة خلال عودته إلى بيروت: «عندما عاد ميشال عون إلى لبنان قبل سنوات منهياً إقامتـــه في منفاه الباريسي كنت من بين مجـــموعة الصحافيين التي كانت معه على طائرة العـــودة، قبيل الصعود الى الطائرة طلب أحد معاوني عون لقاءنا لإقناعنا بمدى أهمـــية العـــودة وأبعادها وكان مدهشاً في ذاكرته ومقارناته التاريخية، إذ قال بالفرنسية: إن عودة ميــشال عون اليوم تشبه عودة فخر الدين المعني الثاني الكبير من منفاه في توسكانا عام 1618»!

هذا شيء من أثر الانتظار، وذاك الانتظار إذا ما طال يستدرج صوراً وأفكاراً عن السلطة والحكم تبتعد بصاحبها من الواقع. بهذا المعنى سنكون في سنوات حكم عون الست، من جهة أمام سلطة متخيلة ومستعينة بمشاهد من التاريخ غير القريب، ومن جهة أخرى أمام واقع ثقيل لا تقترب السلطة المتخيلة منه، وربما كانت ذروته حقيقة قتال «حزب الله» في سورية. فماذا سيفعل فخر الدين المعني حيال حقيقة إلغاء «حزب الله» الحدود وفتح لبنان على الاحتمالات الإقليمية المدمرة؟ وماذا تعني الرئاسة إذا لم تكن قادرة على الاقتراب من هذه الحقيقة؟

إقرأ أيضاً: إنّه يومنا الأخير قبل أن تكتظ سجون ميشال عون

في حالة ميشال عون تعني الرئاسة إنهاء هذا السياق المؤلم من الانتظار، والأرجح أن في هذه النهاية سلوى للبنانيين أيضاً، ذاك أنهم شهدوا على الملحمة بحقباتها المختلفة. حتى أولئك الذين يشعرون بأن في وصوله هزيمة لهم، سيجدون في وصوله إلى الرئاسة بعضاً من متعة الوصول إلى الخاتمة. فالهزيمة أصابتهم قبل انتخاب عون، وربما ساعدهم الحدث في الخروج من حال الإنكار التي يعيشونها. ليس عون مَنْ هزمهم، ووصوله إلى بعبدا هو تتويج فولكلوري للهزيمة. ربما حمل ذلك بعض الخفة، ذاك أن الهزائم حين تصيب أهلها تسقط عليهم على نحو أكثر مأسوية. إذاً، لا بأس أن نتوِّج هزيمتنا بفخر الدين المعني، وهنا يمكن المرء أن يُعزي نفسه بأن يقول أن الخيار الآخر كان سليمان فرنجية، والأخير ربما كان أقرب إلى أن يكون بشار الأسد صغيراً في لبنان. الفارق بين الاحتمالين لن يكون جوهرياً إذا أخضعناهما للسياسة بصفتها إدارة لمصالح لبنان، لكن الفارق سيكون لمصلحة الجنرال إذا سلمنا بأن اللهو سيكون مخففاً للضيق الناجم عن الاختناق الكبير الذي نعيشه.

إقرأ أيضاً: بالصور: حارة حريك تهنئ اللبنانيين بالرئيس ميشال عون

لميشال عون حكايات كثيرة، ولسليمان فرنجية حكاية واحدة. للأول جيل وصور ووقائع عديمة الانسجام، وللثاني زعامة منطقة غير قريبة، وطريق تفضي إلى مشهد متكرر. و «ميشال عون رئيساً» يكشف كم أن «حزب الله» براغماتي إلى حد المراوغة وأن حكاية المقاومة في ظل صور الجنرال الكثيرة مع «عدو المقاومة»، ليست أكثر من ضغينة أهلية، بينما «سليمان فرنجية رئيساً» أمر قد يُفضي إلى تأبيد الرئاسة بـ «المقاومة» على نحو ما أُبّدت سورية بـ «البعث».

إنه «الرئيس القوي» على ما يُردد أنصاره ويكتبون. والقوة لن تُمارس على الحدود طبعاً، إنما في الداخل، وعماد القوة لن يكون مسيحياً، إنما قبضة الحلفاء في «حزب الله»، لكن الأخير لن يعطي جنراله قوة لغير إدارة توترات صغيرة، فالمهمة في سورية تقتضي بقاء الوضع كما هو عليه. الحزب لن يمنح الجنرال نصراً صغيراً على السنّة في لبنان يعيق سعيه إلى نصر «كبير» عليهم في سورية. ستكون المهمة الاستمرار في بقاء لبنان معلقاً بانتظار نتائج الحروب في الإقليم. هذا ما سيتولى تأمينه الجنرال فخر الدين الثاني.

السابق
الورقة البيضاء في وجه الابتزاز
التالي
هل يسير لبنان مع العهد الجديد نحو التطرف الطائفيّ؟