هل ينجح وضع «المقاومة» في عمق التكوين اللبناني؟

قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في سياق المواقف التي أطلقها إبّان زيارته الأخيرة للبنان، انّ «الجميع يعترفون بهذا البلد الذي هو نموذج للتعايش والمقاومة».

على رغم الأصداء الإيجابية لزيارة ظريف ومواقفه الداعمة لدور الرئيس تمام سلام والحكومة والاستقرار وتجنّبه إطلاق مواقف فئوية وقوله «إننا نعتبر بأنه ليس اليوم هو يوم المنافسة والتنافس في لبنان، والتنافس يجب ان يكون لإعمار لبنان»، كانت لافتة مقاربته لدور لبنان ووَصفه «بالنموذج للتعايش والمقاومة».

فالجديد في كلام ظريف إضافة عامل المقاومة على البُعد التعايشي الذي جسّد على امتداد نشوء الكيان اللبناني الميزة الأساسية للبنان كونه البلد الوحيد في العالم الذي يتشارَك فيه المسيحيون والمسلمون المسؤولية في السلطة وإدارة شؤون البلد، الأمر الذي دفع البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى إطلاق عبارته الشهيرة بأنّ «لبنان هو وطن الرسالة».

فالشراكة المسيحية-الإسلامية غير موجودة في أيّ بلد في العالم، وهناك فارق كبير بين التعددية الموجودة في معظم دول العالم، وبين التشارُكية التي يتميّز بها لبنان، ولكنّ هذه الشراكة لم تنجح في إدارة البلد إبّان الأزمات منذ ثورة العام ١٩٥٨ إلى حرب العام ١٩٧٥ وصولاً إلى الوصاية السورية بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٠٥، وهي منذ الخروج السوري في العام ٢٠٠٥ إلى اليوم صوَرية في ظل وجود «حزب قائد» يتفرّد بالقرار الوطني، وهو «حزب الله».

والمدخل الأساسي لنجاح نموذج التعايش الذي تحدّث عنه ظريف يكون من خلال الشراكة الفعلية، لا الشكلية، الأمر الذي يستدعي من وزير الخارجية الإيراني إقناع هيئة القرار في إيران الممثّلة بالسيّد خامنئي بضرورة تسليم «حزب الله» سلاحه للدولة إنجاحاً للتجربة اللبنانية، هذا في حال كان هناك قناعة إيرانية بإحياء نموذج التعايش الذي تحدّث عنه ظريف مادحاً ومُنوّهاً.

فالتعايش يتعطّل في اللحظة التي ترفض فيها أيّ طائفة التقاطع ضمن المساحة المشتركة مع الطوائف الأخرى، وهذا ما هو حاصل اليوم بفِعل إصرار «حزب الله» على امتلاك السلاح ومواجهة إسرائيل بشروطه، ورَفعه شعار حماية لبنان من الإسرائيليين والتكفيريين من دون العودة إلى رأي شركائه في الوطن، وكأنّ قرار الحرب هو من اختصاصه، فيما اختصاص القوى الأخرى يتمحور حول ملفات من قبيل النفايات وما لَفّ لفّها.

وقد أثبتت التجربة منذ العام ٢٠٠٥، على أقلّ تقدير، أنّ التعايش بين اللبنانيين الذي أشاد فيه ظريف معطّل، بل وصل إلى حد الانهيار بين ٧ و ١١ أيار ٢٠٠٨ بين الشيعة من جهة والسنّة والدروز من جهة أخرى، فيما هناك شعور مسيحي بالقلق من التطرف السنّي والشيعي معاً.

وبالتالي، لا يمكن الحديث اليوم عن نموذج التعايش الذي من أبرز شروطه مبدأ المساواة بين الجماعات والأفراد، واستطراداً الشراكة في إدارة البلد في كافة الشؤون الكبيرة منها والصغيرة، الأمر غير المتوافر اليوم في ظل الدور الذي يؤدّيه «حزب الله» كحزب قائد للجمهورية.

وإن دَلّت التجربة الممتدة منذ العام ١٩٧٥ إلى اليوم على شيء، فعلى ثلاث عِبَر أساسية:

العبرة الأولى، انّ الحرب تُعطّل التعايش وتعلّقه. فلا يمكن الحديث عن تعايش في ظل الترسيمات الجغرافية والنفسية بين الطوائف اللبنانية.

العبرة الثانية، انّ الوصاية تعطّل التعايش وتعلّقه. فلا يمكن الحديث عن تعايش في ظل إدارة خارجية للشؤون الداخلية، وتحريض خارجي متواصل تبريراً لاستمرار الوصاية.

العبرة الثالثة، انّ المقاومة تعطّل التعايش وتعلّقه. فلا يمكن الحديث عن تعايش في ظل وجود فريق مسلّح وآخر أعزل، وفريق أقوى من الدولة ويستقوي على الدولة، ويرفض تسليم سلاحه بحجّة المقاومة، فيما لا يستقيم وجود دولة ومقاومة، فإمّا مقاومة وإمّا دولة، لأنّ التعايش بينهما مستحيل إلّا في حال كان قَصْرياً، على غرار ما هو عليه اليوم.

وتِبعاً لذلك، لا يوجد شيء اسمه تعايش ومقاومة، لأنّ المقاومة تعطّل التعايش، وبالتالي هما نقيضان لا يمكن أن يلتقيا، وكل محاولات الترويج لتكاملهما لن تجدي نفعاً، فحيث تكون المقاومة لا يكون التعايش، وحيث يكون التعايش لا تكون المقاومة. والاستثناء مهما طال لا يتحوّل إلى قاعدة. فالاحتلال العثماني لأكثر من أربعة قرون لم يحوِّل العرب إلى أتراك، ولا اللغة العربية إلى لغة تركية.

ومن الواضح انّ ثمّة محاولة مكشوفة لجعل المقاومة جزءاً لا يتجزّأ من العمق التكويني للتجربة أو الفكرة أو الفلسفة أو الثقافة اللبنانية، ولكنّ هذه المحاولة لن تجدي نفعاً، لأنّ لبنان الرسالة هو لبنان التعايش لا لبنان المقاومة، والسيّد حسن نصر الله مَدعوّ إلى ترجمة موقفه اللافت برَفض «الطائفة القائدة» و«الحزب القائد» فعلاً لا قولاً فقط، كما هو مدعوّ الى ترجمة دعوته المتقدمة للوصول إلى الدولة التي «تشكّل الضمانة الحقيقية للجميع»، واعتباره «الطريق للدولة العادلة التي تبعث الثقة والاطمئنان، يكون في الشراكة الحقيقية بين جميع مكوّنات الشعب اللبناني». ولكن، ويا للأسف، كل هذا الكلام النوعي غير قابل للترجمة قبل ان يسلّم «حزب الله» سلاحه للدولة.

فالتعايش هو القاعدة في لبنان، والمقاومة هي الاستثناء، وستبقى القاعدة معلّقة إلى حين زوال الاستثناء، لأنّ التعايش لا يستقيم إلّا بوجود دولة وحرية وشراكة ومساواة.

(الجمهورية)

السابق
العراق.. صحوة الشيعة العرب
التالي
من هو «الحكيم» الذي زوَّر جواز سفر الأسير… ولماذا اختار نيجيريا؟