أبعد من مجرد بندقية

حزب الشيوعي
منذ أن انتشرت صورة المسلحين الشيوعيين معلنةً عن مشاركة الحزب في الدفاع عن لبنان بوجه "الإرهاب التكفيري" والموضوع لا زال يتفاعل خاصةً مع توالي التحقيقات المكتوبة والمصورة لوسائل إعلام موالية لحزب الله.

يخطئ من يظن أن الانتقاد والتهكم الذي ساد في أوساط اليساريين عامةً والشيوعيين السابقين خاصةً هي ردة فعلٍ مجردة من أي سياق. في الشكل قد يبدو الأمر كذلك، انما في المضمون هو انتقاد واعتراض على مسيرة الحزب السياسية منذ منتصف التسعينات.

كثيرون لم ينتسبوا تنظيمياً للحزب، لكن لم يمنع أن تشكل المسيرة الغنية لهذه المؤسسة العريقة حجر الزاوية في وعيهم السياسي: من المشروع السياسي الذي حمله ونضاله النقابي، إلى دوره في الحركة الوطنية، وصولاً لكونه أحد الحاضنين لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد أيلول الأسود (دون الغوص فيما عليها) واطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) التي دفعت ثمناً مضاعفاً (أولاً في مواجهة الاحتلال وثانياً للحفاظ على استقلالية قرارها ممن أصبح يعرف اليوم بمحور الممانعة) ؛ كما أن سيرة قيادات الحزب ومفكريه تركت بدورها أثراً بالغاً عليهم كاستشهاد فرج الله الحلو.

لكن الطامة الكبرى هي أن الحزب الشيوعي وصل إلى حد تبني بروباغندا حزب الله ببعدها المذهبي

بعد اتفاق الطائف، استمر الحزب الشيوعي بطرح برنامجه للإصلاح السياسي، لكن من ينظر حينها – ولو بصورة عابرة – للواقع الحزبي يتعجب كيف يمكن الجمع بين مشروعٍ تغييري ديمقراطي على المستوى الوطني، و ممارسات تنظيمية لا تمت بصلة للتعددية واحترام الآخر المختلف. فكل من عارض القيادة مطالباً بشفافية وديمقراطية على المستوى التنظيمي، وكل من طالب بمراجعة مواقف الحزب من تقييمه لعلاقة لبنان بالنظام السوري ودوره الأمني كان مصيره الفصل الذي ترافق في أحيان ليست بقليلة بافتراءات شخصية وتشهير لمجرد هذا الخلاف في مقاربة المسائل السياسية. بالمناسبة، معارضو اليوم كانوا حينها في موقع القرار الحزبي، فهم ليسوا – كما يصورون اليوم – التغييرين الديمقراطيين الفعليين، بل يتناولون أزمة الحزب وكأنها مشكلة تنظيمية بحتة، يرفضون الاعتراف أن الأزمة في جوهرها هي خيارات سياسية لا تمت بصلة إلى المفاهيم الديمقراطية، هؤلاء المعارضين لا يختلفون عن قيادة الحزب بشيء.

ان النظرة الموضوعية لأداء الحزب في السنوات العشرة الاخيرة تظهر أن المؤسسة الحزبية لم تستخلص العبر من الماضي، لم يفقه البعض حتى الساعة أن الشعوب التي لا تتمتع بالحرية تعجز عن التصدي لأي “هجمة إمبريالية أميركية صهيونية استعمارية كونية”، اجتياح العراق في العام ٢٠٠٣ كان خير دليل، ما زالوا يرفعون شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” بكل ما جنى علينا من ويلات. ليس صعباً على أي مراقب أن يدرك أن مفاهيم الديمقراطية والحريات (العامة والفردية) لم تعد في صلب أولويات الحزب، صحيحٌ أنه ينادي بنظام ديمقراطي، لكن على أرض الواقع يريده مفصلاً على قياسه حصراً، أما من لا يشاركه الرؤية السياسية فهو ليس أكثر من عميلٍ ممنوعٌ عليه التنعم “بديمقراطيته”.

وفق هذا المنطق السياسي، كان من الطبيعي أن يعادي الحزب الشيوعي الثورة السورية منذ يومها الأول. لكن، ولأن البعض يعلم في قرارة نفسه أن النظام ساقط أخلاقياً، يلجأ إلى تسويق حججٍ واهية منفصلة عن الواقع والمنطق تستهدف معارضي النظام للوصول إلى مفضالة تبرر الاصطفاف إلى جانب بشار الأسد و التقاعس الأخلاقي والسياسي عن دعم الثورة (العمالة للعدو، المال الخليجي، المؤامرة الكونية…). هي عقلية تسلطية ترفض وجود من يملك أولويات مختلفة عنهم، اولويات خاطئة ربما، لكنها مبنية على مقاربة سياسية أخرى و ليست ارتهاناً خارجياً كما يسوقون. يكفي أن تسود هذه العقلية حتى لا يكون الفرد أو المؤسسة على اقتناعٍ بالحاجة للخروج زمن الدكتاتوريات التي ارساها جمال عبد الناصر. ففي مقابلته مع جريدة الأخبار في ١١ ايار، يقول خالد حدادة فيما يخص العلاقة مع النظام السوري :” لا يوجد قطيعة معه. لا مشكلة لدينا في إيصال ملاحظاتنا”، وكأن بشار الأسد الحمل الوديع. ويتجلى هذا الأمر باللجوء لمنطق الثنائياتأي ضرورة الاختيار بين داعش والنظام السوري، الهدف منه تبرير الانحياز لبشار الأسد عبر الإصرار على رؤية سوريا كما يحلو للبعض وليس كما هي على أرض الواقع، فيصرون على إلصاق تهمة الداعشية بكل من يعارض النظام السوري.

لكن الطامة الكبرى هي أن الحزب وصل إلى حد تبني بروباغندا حزب الله ببعدها المذهبي. صحيحٌ أنه يتم اللجوء لبعض “الروتوش” لإضفاء طابع وطني على الدعاية الإلهية، لكن في الجوهر يساهم بتصوير الفتنة الطائفية وكأن مسؤول عنها السنة حصراً، من هنا الاقتراب من دعاية حزب الله إذ يعطونه صك براءة.

استمر الشيوعيون على منوالهم هذا حتى دخلوا مؤخراً المعركة العسكرية وهنا بيت القصيد.

يستحيل أن لا تكون هذه الخطوة بالتنسيق مع حزب الله، لكن بالتأكيد مهما بلغت امكانات الشيوعيين العسكرية فإنها لن تصل إلى مستوى ما راكمه حزب الله طوال سنوات من عتاد وخبرات، بالتالي الحزب ليس بحاجة لدعم عسكري من هذا النوع. هي ليست أكثر من خطوة رمزية ذات أبعاد سياسية، الهدف منها إضفاء طابع وطني على نشاط حزب الله العسكري خاصة وأن الرياح العسكرية لم تعد تهب بالكامل على هواه ما يفرض عليه انغماسا أكبر في المستنقع السوري و ما يترتب عليه من انعكاسات على الداخل اللبناني. هذا الأمر يشير إلى مأزق سياسي يعيشه حزب الله حتى يلجأ لغطاء من هذا النوع سواء من احزاب موالية له أو من مجموعات أهلية (لواء القلعة). أن يصل حزب الله إلى مرحلة يستعين فيها بالحزب الشيوعي فإنه لأمرٌ ملفت، حزب الله لم يكن يوماً بحاجة لغطاء شيوعي – سياسياً كان أو انتخابيا – رغم الإلحاح والاستماتة الشيوعية في تأدية هذه الوظيفة وتحديداً بعد العام ٢٠٠٥.

أما إذا تبنينا بروباغندا الشيوعيين التي تحاول إقناع الرأي العام بأن هذه الخطوة أتت بإرادة شيوعية بحتة فتلك مشكلة أخرى، إذ تشير إلى الحالة المتردية التي وصل إليها الواقع اللبناني بفعل حزب الله، إذ بات قدوةً لأحزاب أخرى تسعى لأن تحجز موقعاً لها في الحياة السياسية من خارج مفهوم الدولة و الحياة السياسية الطبيعية.

يستحيل أن لا تكون هذه الخطوة بالتنسيق مع حزب الله، لكن بالتأكيد مهما بلغت امكانات الشيوعيين العسكرية فإنها لن تصل إلى مستوى ما راكمه حزب الله

في الحالتين يبقى ملفتاً زج اسم جمول في المعركة؛ ليس بالضرورة أن يكون حزب الله على تنسيق إعلامي مع الشيوعيين، لكن بالتأكيد يدرك اللجوء لهذه الحجة، ما يشير إلى تآكل رصيد حزب الله كحركة مقاومة، وبات يلجأ إلى رصيد غيره للاستمرار بنشاطه العسكري. أما إذا كان الشيوعيون أصحاب المبادرة من ألفها إلى يائها، فهي تدل على حالة الترهل التي وصل إليها هذا الحزب العريق بحيث لم يعد يحيا سياسياً إلا بحمل البندقية (بالمناسبة، شتان ما بين بندقية جمول التحررية و بندقية اليوم الدونكيشوتية).

الحزب الشيوعي

باختصار الخلاف ليس على خلفية النشاط العسكري هذا، بل المقصود هي المراهقة السياسية ككل، هي الاساءة لتاريخ ليس ملك أفرادٍ بعينهم. عقلية سياسية متحجرة ومقاربة سطحية للواقع الداخلي والاقليمي هي محط انتقاد الكثيرين، وما الخطوة العسكرية الأخيرة (رغم رمزيتها) إلا عامل مفجر. لو أن الحزب كان مشبعاً بثقافة ديمقراطية لاختلفت مقاربته للأحداث السورية منذ أن اندلعت الثورة قبل أربع سنوات، و لما وصل به الحال إلى هذا المستوى من الانحطاط.

كتب يوماً أحد الأصدقاء على صفحته الخاصة: “نحنا لا نشمت بالحزب الشيوعي اللبناني بقدر ما نتحسر على ما آلت إليه حاله”.

السابق
صراع المثقف والسياسي
التالي
العريضي: الحكومة في اجازة مدفوعة الثمن مسبقا وثمنها كبير ومكلف