«داعش» صاحب الثقافة الجماهيرية

الأوروبيون هم الذين كشفوا عن الآثار المطموسة في جوف أراضي الشرق، في القرن الثامن عشر. وذلك بعدما دفعتهم ديناميكيتهم المتعاظمة، إثر النهضة، نحو الشرق، بمغامرات يختلط فيها العلم بالفضول والإستشكاف والتجارة والغزو. وصلت ذروة جموحهم الشرقي هذا، بعيد الثورة الفرنسية (1789) التي أطلقت الطاقات الإستعمارية الفرنسية، فكانت حملة بونابرت الى مصر. ثم كانت النتيجة الثقافية الخصبة، من اكتشاف أسرار اللغة الفرعونية القديمة، الهيلوغريفية، على يد شامبوليون، وإنشاء المتاحف والمواقع الأثرية والمنحوتات من بقايا الحضارة القديمة.

الشيخ محمد عبده، الذي جاء بعد مئة عام على الغزوة البونابرتية، كان لا يتردد في القول بأن الشريعة الإسلامية لا يمكن ان تحرِّم هذه التجليات الثقافية للاستشراق، مشيدا بـ”مهنية أهل الغرب في المحافظة على التراث”، معاتباً أهل الشرق لإهمالهم تراثهم؛ كان يقول: “ليست ملَكة الحفظ مما يتوارث عندنا، وإنما الذي يتوارث هو ملَكات الضغائن والأحقاد”. ولئن كانت مصر السباقة في إلهاب مخيلة المستشرقين، وفي التمتع بأول إنتاجاتهم الثقافية، وبتنظير شيوخها الإصلاحيين لهذه الإنتاجات… لئن كانت مصر السباقة في كل ذلك، غير أن دولاً أخرى، من بعدها، صارت لها مواقع أثرية، ونصُب وأضرحة ومتاحف ومعارض. ومن هذه الدول العراق،التي ازدهرت أثرياتها، مع العهود الإستقلالية (اللوحة المؤسسة لمدينة نمرود، في الموصل، اكتشفها عام 1951 ماكس مالوان، زوج أغاثا كريستي)، ومعها سوريا والأردن وقليل من لبنان. فهذه المرحلة، التي شهدت استقرارا في دولها ذات الحدود المرسومة، كانت صنو هذا النوع من الازدهار الثقافي، فتعايشت معه.

عشية ظهور “داعش”، كانت الدول العربية، في ما يتعلق بآثارها ومتاحفها، قد أصبحت من صنفين: الأول، الأقدم، كلما تقادم، زادت ملامحه ترهلاً، وسمك الغبار فوق رفوفه وأحجاره وتماثيله؛ وتلك حالة مصر العريقة، الفقيرة بمواردها، والعاجزة عن الترميم والتنقيب والصيانة والمحافظة، الا بالقليل المتيسّر. الصنف الثاني، الأحدث، يقع عند الدول العربية الغنية التي نقلت تصاميم متاحف أوروبية عريقة ونسختها فوق رمالها، لتخلق مجالا ثقافيا غير اعتيادي، ولكنه يصدّر الماضي، على المنحى الثقافي الأوروبي الكلاسيكي. قبل “داعش”، كانت النماذج الثقافية هذه تتراوح بين إنشاء الجديد من المنتجات، وإهمال القديم، وما بينهما من مزيج بين الإثنين. ولكن مع “داعش”، ظهرت النظرة الأخرى التي نعرفها جميعاً، المندفعة بنوع من الهستيريا لمحو كل هذا الانتاج، بناء على عداوته لحدود الدول الوطنية، كما لتراكماتها الثقافية.

في الشريط الأخير، الذي وزعه “داعش” حول عملية هدم التماثيل الآشورية في الموصل، قال أحد المهدمين ان الرسول هو الذي أمره بإزالة التماثيل وطمسها. وهو بذلك، يكرر ما درج على قوله كل داعشي أثناء واحدة من عملياته القاتلة؛ من انه لا يقوم هنا، هو الجهادي، إلا بما يعيدنا إلى أزمنة الرسول وصحبه، وانه يكره كل ما جاء من بعده، وانه إبن زمن آخر، يعود إلى ألف وستمئة عام.

هذا الجانب من الفكرة الداعشية، فهمناه، وفهمنا أيضا تلك الكراهية العنيدة ضد “الصليبية” الغربية والشرقية وعبادة غير الله. بل يمكن أن نفهم أيضاً بأن “داعش” ينسخ ما قام به المسلمون في فتوحاتهم المختلفة، من طمسهم لآثار وحضارة من سبقهم، بصفتهم منتصرين؛ فكانت كراهية “داعش” لما كشف عنه علم الآثار الغربي عن وجود تلك الحضارات الما قبل إسلامية.

ولكن ما لا يقوله الداعشيون، هو انهم بهدمهم لهذا التراث، يصرخون بانتمائهم الى الثقافة الجماهيرية للعصر، والقائمة على دعامتين: الأولى النسيان، ومزج التواريخ ببعضها بل تهجينها واختراع أزمنة ملقّحة جينياً، ثم تمريرها من أجل اقتناء غيرها، فنسيانها… في لهاث مستمر نحو جديدها. الدعامة الثانية، المرتبطة بالأولى، هي تلك الثقافة القائمة على المشهدية، المرئية والحسية، الدموية والمثيرة دائماً؛ المدعّمة بمؤثرات تكنولوجية، والعابرة لكل الحدود عبر تويتر وفايسبوك وشرائط اليوتيوب والنشرات الالكترونية المتواصلة، القادرة على التقاط العدد الاكبر من الأنظار؛ والقاتلة لمَلَكات التجريد والفضول، والمعزّزة لشائبة السطحية والتلصْص. وهذه الثقافة تمقت، وربما تجهل، الثقافة الكلاسيكية، المتعمقة، المتذكرة، المتأملة، وأبهى تجسيداتها ثقافة المتاحف والمواقع الاثرية والنصب والتماثيل.

تلك هي الثقافة الجماهيرية الآن. وكون “داعش” قد استوعبها وسخرها، يعني انه لصيق بها، اسلوباً ومعنى. من دون تبنّي “داعش” لهذه الثقافة، فلا وجود له على الأرض ولا في المخيلات. من دون ثقافته الجماهيرية المعاصرة، المشهدية، البصرية، المتلاحقة، المتخبّطة بأزمنتها، المسرعة إلى النسيان، الغارقة في شبق إمتاع نظرها، النرجسية، المدغْدغة لأكثر الحواس غريزية… من دون كل ذلك، لا وجود لـ”داعش”.
(المدن)

السابق
بالصور: شاهدوا من هي والدة هيفاء وهبي
التالي
أوباما: لا أغرّد.. وهذا الهاتف الذي أستخدمه