شرف الدين: مصرف لبنان وضع نصب عينيه صيانة الإستقرار الإجتماعي

رائد شرف الدين

نظمت الجامعة الاميركية للثقافة والتعليم -النبطية محاضرة مع النائب الاول لحاكم مصرف لبنان رائد شرف الدين بعنوان ” مصرف لبنان والاستقرار الاجتماعي” في قاعة المحاضرات في الجامعة، في حضور مدير الجامعة في النبطية هاني حيدورة، مدير فرع مصرف لبنان في النبطية علي الجوني، رئيسة جمعية متخرجي الجامعة الاميركية – فرع الجنوب هالة بدرالدين وفاعليات.

بعد النشيد الوطني، رحب رئيس قسم الادارة في الجامعة حسين النابلسي بالحضور تلاه شرف الدين قائلاً:”الحديث عن الاستقرار الاجتماعي في صرح ثقافي تربوي، وفي مدينة خرج من رحمها صاحب هذه الكلمات وتشكلت أولى علامات نبوغه في ربوعها، ألا وهو العالم الكبير حسن كامل الصباح، ينطوي على نكهة خاصة. فحسن كامل الصباح، الذي يقع ضريحه على بعد بضع مئات الأمتار من مكان اجتماعنا هذا، لم يقتصر إبداعه على الجانب العلمي – الفيزيائي، كما يظن الكثيرون فحسب، بل تخطاه إلى الإسهام الأدبي في علم الإجتماع والدين والثقافة. هنا تكمن هذه النكهة الخاصة في حديثنا، حيث يتكامل البعد العلمي والحس الاجتماعي والعمق الفكري -الروحي، ليشكلوا بوتقة إنسانية جامعة تختصر الكثير من القيم والأهداف التي نصبو إليها كبشر بشكل عام، وكلبنانيين بشكل خاص.”
تابع:”بعيدا عن نظريته في “صراع الحضارات”، يذكر الكاتب الأميركي صاموئيل هنتنغتن في كتابه “النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة”، في سياق مقارنته بين المجتمعات التي تتميز بالإستقرار وتلك غير المستقرة، أن الأولى تتصف بالإجماع والتواصل والمشروعية التي تنعكس على تقدم المجتمع وتحقيق إنجازاته التنموية والحضارية. كما أن حالة الإستقرار تجعل المجتمع أكثر قدرة على التنمية والتقدم ومواجهة التحديات الخارجية والداخلية من العدوان أو الكوارث الطبيعية أو الأزمات الإقتصادية والسياسية.”

اضاف:”في هذا الإطار، يمكننا صياغة تعريف عملي للاستقرار الإجتماعي من خلال ما ذكره علماء الإجتماع وأخصائيو الفلسفة الإجتماعية بالقول ان الإستقرار الإجتماعي هو حالة الطمأنينة في المجتمع التي تجعله قادراً على تحقيق طموحاته وأهدافه نتيجة للتوازن الإجتماعي بين القوى الحية-السياسية والإجتماعية والدينية- في المجتمع، مما يمكنه من أن يعمل ويتفاعل مع المجتمعات الأخرى دون وجود أية معوقات أو قوى تحول دون ذلك.”

واشار الى انه “من أهم النظريات التي تفسر ظاهرة الإستقرار في مجتمع ما هي النظرية المستكنة والنظرية الديناميكية. الإستقرار بالنسبة للنظرية الأولى هو استقرار مستكن، ويعزى إلى مصدر واحد وهو الدولة المنوطة بمواجهة التحديات أو الضغوط التي يتعرض لها المجتمع سواء كانت داخلية أم خارجية، وتحديد كيفية المواجهة وحجمها بحسب قوة التحديات المستجدة. أما النظرية الديناميكية، فتتناول ظاهرة الإستقرار بكامل مفاصلها في الدولة وتعزوها إلى الإمكانيات الكامنة في المجتمع بكليته، والتي تحول الأحداث والمتغيرات التي تهدد استقرار المجتمع إلى محفز للجهود ومفجر للطاقات بهدف الحفاظ على هيكلية المجتمع.”، لافتا الى ان “الإستقرار الديناميكي مبني على استباق التحديات والضغوط التي تواجهها المجتمعات من خلال تفاعل المؤسسات والوظائف التي تؤديها تفاعلا إيجابياً”.

وقال:”بناء على ما تقدم، يتأتى الإستقرار الإجتماعي كنتيجة لمساهمة عوامل تراكمية كثيرة في كافة جوانب الإستقرار، من سياسية واقتصادية وأمنية، منها العوامل الخارجية كتحديات السياسة الخارجية والأزمات الإقتصادية العالمية والتهديدات العسكرية، ومنها العوامل الداخلية كاحتواء التناقضات الداخلية وتعزيز البنية الداخلية من خلال التوظيف المعتدل للقوى العاملة وضمان المشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة وموازنة الحقوق والواجبات واحترام حقوق الإنسان والأقليات وضمان العدالة الإجتماعية والتوزيع العادل للثروات وتحقيق التنمية المستدامة وتأمين الرفاه الإقتصادي”.

تابع:”من هنا يمكن أن نلمس الأهمية الاستراتيجية للدور الحيوي الذي ينبغي للسلطة الإقتصادية – النقدية أن تلعبه في صيانة وتفعيل الإستقرار الإجتماعي في أبعاده الإقتصادية والمالية والتنموية في ظل التخبّط الذي تعانيه منطقتنا والعالم على المستويين السياسي والإقتصادي. في هذا السياق، يأتي إضفاء بعد اجتماعي وأخلاقي على أداء المؤسسات المالية والمصرفية وتجديد الجهود الرامية إلى تعزيز المسؤولية الإجتماعية لديها، خاصة في مواجهة الأزمات، كالأزمة المالية في عام 2008، بحيث تغيرت طبيعة عمل المصارف المركزية وتعزز دورها في اقتصادات ، فلم تعد تعتمد فقط على الأدوات التقليدية في تنفيذ سياساتها النقدية، بل أصبحت تبتكر هندسات أخرى من ضمنها ما يفيد الإقتصاد والمجتمع، من خلال مساندة الحكومات في خلق الظروف المؤاتية لتحقيق النمو المستدام، وتوفير الإمكانات لإعادة إحياء سوق العمل، وتحصين الأمن الإجتماعي والبيئي، وتعزيز التنمية البشرية”.

واضاف:”هكذا، فإن مفهوم المسؤولية الإجتماعية بات يرتدي أهمية بارزة في قطاع الأعمال وفي استراتيجيات الشركات والمصارف لما له من آثار بالغة على الإقتصاد والمجتمع والبيئة التي تشكل الأقانيم الثلاثة للتنمية المستدامة. فالعلاقة العضوية بين الإقتصاد والمجتمع تقضي بأن نمو الإقتصاد يرتكز بشكل أساسي على صحة وسلامة المجتمع، والعكس صحيح إذ لا وجود لمجتمع سليم في غياب الإقتصاد المرتكز على أسس متينة والمواكب للتطورات العالمية. إن مفهوم المسؤولية الاجتماعية وما ينتج عنه من مساهمة في الإستقرار الإجتماعي يدخل في صلب مهمة مصرف لبنان العامة التي تضع على عاتقه مسؤولية “المحافظة على النقد لتأمين أساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم”، وفق المادة 70 من قانون النقد والتسليف”.

وقال:”فعلى صعيد تحصين الأمن الإجتماعي، دأب مصرف لبنان منذ سنوات على تأمين المناخات المناسبة لتحسين المستوى المعيشي لدى المواطن اللبناني من خلال تحقيق تراجع في الفوائد واستقرار في الأسعار والمحافظة على القدرة الشرائية لديه، وأيضاً من خلال تجنيب لبنان العديد من الأزمات الإقتصادية ومفاعيلها الإجتماعية. كما عمل مصرف لبنان خلال الأعوام الماضية على تأمين الحوافز المناسبة للمصارف بغية توفير القروض الميسرة للقطاعات الإنمائية والسكنية والتعليمية والبيئية والطاقة البديلة، بحيث ساهمت هذه الحوافز في تعزيز فرص التعليم لحوالي عشرة آلاف طالب، فضلا عن المساهمة في تأمين الإستقرار الإجتماعي والعيش الكريم عن طريق توفير المسكن لحوالي 100 ألف عائلة. والجدير ذكره أن رزم التحفيز شملت مؤخرا ريادة الأعمال والأبحاث والتطوير والمشاريع الإنتاجية والإستثمارية الجديدة.”

ولفت الى انه “في الشأن البيئي، شكلت حوافز مصرف لبنان فرصة لإطلاق المشاريع التي تحافظ على بيئة قليلة التلوث والمخاطر لما في ذلك من منافع على صحة المواطن، فضلا عن مشاريع الطاقة البديلة التي لا تقتصر إيجابياتها على صحة المواطنين فحسب بل لها منفعة إقتصادية في تأمين وفرٍ في كلفة الطاقة على ميزانية الأسر والمؤسسات والدولة. فإذا علمنا أن تغطية حاجات لبنان الحالية تتطلب استيراد الطاقة بمبلغ 6 مليارات دولار سنويا، واستطعنا توفير 10 الى 20% من هذا المبلغ، سوف يتحسن ميزان المدفوعات بنسبة كبيرة. وقد لاحظنا أن اهتمام المصارف بالشق البيئي ازداد، وفق ما يتبين من طلبات القروض المرسلة إلينا بخصوص مشاريع صديقة للبيئة، لا سيما في قطاع البناء، والتي تجاوز مجموعها ال100 مليون دولار”.

وتابع:”كذلك دأب مصرف لبنان على حث المصارف على احترام المعايير البيئية الدولية لدى قيامها بدراسة وتقييم المشاريع المعروضة عليها للتمويل، على غرار مبادىء “Equator Principles” التي وضعتها مؤسسة التمويل الدولية. ومن المبادرات البيئية التي قام بها مصرف لبنان أيضا إنشاء “السطح الأخضر” في مركزه الرئيسي في بيروت، وهو مشروع ريادي في لبنان والمنطقة، ويؤمل أن تعتمده المؤسسات في القطاعين العام والخاص. باعتبار أن استحداث الحدائق في المدن بات أمرا في غاية الصعوبة”.

وقال:”اما في مجال الرياضة، التي تعتبر أيضا مدخلا لصحة وعافية المواطن، فقد عقد مصرف لبنان اتفاقية مع جمعية بيروت ماراثون لرعاية السباق الذي أطلق عليه تسمية “مصرف لبنان بيروت ماراثون” لفترة تمتد على مدى ثلاث سنوات، من العام 2013 الى العام 2015. لم يغب بعد التنمية البشرية ومراكمة الرأسمال البشري عن رؤية مصرف لبنان ومشاريعه، لما للعنصر البشري من أهمية استراتيجية وأولوية في إطلاق نهضة تنموية ونقل الإقتصاد إلى اقتصاد إنتاجي مبني على المعرفة، خاصة أن إحدى أهم ميزات لبنان التفاضلية هي موارده البشرية وطاقاته العلمية. فبالإضافة الى تشجيع المصارف على منح القروض التعليمية للمراحل الجامعية كافة بفائدة لا تتجاوز ثلاثة في المئة منذ العام 2009، قمنا بإطلاق مبادرتين تقضيان بإنشاء مخيمات تحفيزية (BOOTcamps) لتشجيع الطلاب أصحاب الأفكار الخلاقة بغية تطويرها إلى مشاريع عملية، بالتعاون مع الحكومة البريطانية وسيليكون فالي. هذا، بالإضافة إلى فرص التدريب التي يتيحها مصرف لبنان للطلاب الجامعيين، والمنشورات التي يصدرها لنشر الثقافة المالية (financial literacy) في أوساط المواطنين، والأوراق البحثية وورش العمل المنشورة على الصفحة الإلكترونية لمصرف لبنان.”

وتابع:”في آب من العام 2013 قمنا بابتكار هندسة مالية تمكن المصارف من المساهمة في مؤسسات تعتمد على المعرفة، والهندسة ذاتها تؤمن تغطية مخاطر 75% من هذا الإستثمار. فلأول مرة في لبنان تتوفر إمكانيات تصل إلى 400 مليون دولار أميركي موضوعة بتصرف الإبداع والإبتكار للاستفادة من الطاقة البشرية وخلق مؤسسات جديدة تغني الإقتصاد وتؤمن فرص عمل. وحتى هذا التاريخ، قام العديد من المصارف بتخصيص الأموال اللازمة لهذا النوع من الاستثمار. ونحن نشجع جميع المصارف العاملة في لبنان إلى أخذ مبادرات مماثلة”.

وقال:”ليس بعيدا عن مضمار التنمية البشرية، لمصرف لبنان مبادرات في مجال الثقافة والفكر، ومن أهمها إنشاء متحف مصرف لبنان الذي يعرض تاريخ المصرف ويضم مجموعة نادرة من العملات والنقود التي عرفها لبنان منذ أقدم العصور، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من عملات دول عربية وأجنبية، مشكلا نافذة نقدية غنية على التاريخ اللبناني والعالمي بكافة تلاوينه وتفاصيله، تجمع ما بين عراقة التاريخ وحداثة التكنولوجيا. كما يقوم مصرف لبنان بالإضاءة على شخصيات لبنانية تركت بصماتها في التاريخ اللبناني، فيكرمها عن طريق إصدار قطع معدنية تذكارية خاصة بها”.

تابع:”إن النمو الإقتصادي في لبنان والنمو في قطاع المصارف حاليا، يعتمدان، إلى حد كبير، على التسليفات والتحفيزات التي يطلقها مصرف لبنان. ففي العام 2013، تبين أن 50 % من النمو في الناتج المحلي يعود إلى تحفيزات مصرف لبنان من خلال منح المصارف 1,46 مليار دولار بفائدة 1 بالمئة، لذلك أعدنا تجديدها في العام 2014، ولو بمقدار أقل، (حوالي 900 مليون دولار). وفي هذا الإطار، قام مصرف لبنان بإطلاق رزمة حوافز جديدة للعام 2015 بواقع مليار دولار لأن الاسباب الموجبة ما زالت قائمة، وهو عدم الإستقرار السياسي والأمني، كما أن الطلب الخارجي على الإقتصاد اللبناني ما زال ضعيفاً، وبالتالي علينا تحفيز الطلب الداخلي. إن جميع هذه المبادرات تصب في مصلحة إعادة تكوين الطبقة الوسطى وتحسين مستوى المعيشة لدى شريحة كبيرة من اللبنانيين”.

وختم شرف الدين قائلاً:”في الخلاصة، بين مصرف لبنان والإستقرار الإجتماعي علاقة وجودية، فالمصرف المركزي منذ إنشائه، وعلى مر كل السنين المشبعة بالأزمات في لبنان والمنطقة العربية والعالم وضع نصب عينيه صيانة الإستقرار الإجتماعي في لبنان وأطلق المبادرات في سبيله. وجوهر هذه العلاقة ومحورها هو المواطن اللبناني الذي نؤمن بحقه بالتمتع بمستوى معيشي لائق وتنمية اقتصادية واعدة ونهضة اجتماعية حضارية. لذلك ندعو الى تضافر الجهود وتوزيع المسؤوليات بين جميع الجهات المعنية من خلال إيلاء موضوع المسؤولية الإجتماعية الإهتمام اللازم على مستوى القطاعين العام والخاص، للوصول إلى المستوى المنشود من الحصانة الإجتماعية في لبنان والتي تنأى بالإستقرار الإجتماعي عن أكبر قدر من الأزمات التي تعصف بنا وبمحيطنا”.

بعد ذلك، دار حوار بين شرف الدين والحضور، وقدم حيدورة درعا تذكاريا لشرف الدين.

السابق
السعودية عادت إلى الخمسينيات.. والتغيير حتمي
التالي
علام #شكرا_حنا_غريب؟