داعش المقيمة فينا (1): في الغرب والخليج والاستبداد

انفجار العقل
إلى جانب الدور الرئيس لطغم الاستبداد، ثمّة أدوارٌ أخرى، تؤديها أطراف عدة في توليد الظواهر الداعشية. في هذا السياق، يأتي الدور الانتهازي لحكومات الغرب (والأميركية خصوصًا) التي لا تكترث إلا لمصالحها العارية والمباشرة، والتي جعلت من مقولة "القوّة" المعيار الوحيد في العلاقات الدولية. وثمّة دور أكيد لنظام الملالي في إيران الذي لم يجرّ على المنطقة إلا الويلات. وهناك مساهمة أكيدة لبعض أنظمة الخليج التي كانت دومًا قصيرة النفس، ولا ترى أبعد من المحافظة على نظم حكم تقليدية وهشة.

نبدأ من فيديو يظهر عملية رجم نفذتها داعش بحق امرأة زانية، بحسب ادّعائهم، في الرقّة، واعتراف التنظيم المتطرّف للمرة الأولى باحتجازه وبيعه الإيزيديين كرقيق، من خلال العدد الأول من مجلته الدعائية “دابق”. فقد أعلن أنّه منح النساء والأطفال الإيزيديين الذين أسرهم في شمال العراق، إلى مقاتليه كغنائم حرب، مفتخراً بإحيائه العبودية.

وأكد من كتب المقال أنّ “هذه أوّل عملية استعباد واسعة النطاق بحق العائلات “المشركة”- بحسب وصفه – منذ وقف العمل بهذا الحكم “. وتابع أنّ “القضية الوحيدة المعروفة، لكنّها أصغر بكثير، هي عملية استعباد النساء المسيحيات والأطفال في الفيليبين ونيجيريا من قبل المجاهدين هناك”.

إلى ذلك، أشار المقال إلى أنّ “الناس من أهل الكتاب، أو أتباع الديانات السماوية مثل المسيحية واليهود لديهم خيار دفع الجزية أو اعتناق الإسلام، لكن هذا لا ينطبق على الإيزيديين”.

لنذهب إلى جدّة يوم الخميس ١١ أيلول الفائب، حيث عُقِدَ مؤتمر لوضع استراتيجية في مواجهة “داعش” والمنظمات الإرهابية الأخرى في المنطقة. التزمت الدول المشاركة بالوقوف متّحدة ضدّ خطر الإرهاب بكل صوره، بما في ذلك ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام. فهل ينجح التحالف بذلك؟

التحدي الأكبر للتحالف الدولي ضد “داعش” هو في محاصرة الدول والقوى التي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر، في قيام هذا التنظيم وانتشاره، وهي على وجه الخصوص “إيران، والنظام السوري، وحزب الله”. تلك القوى بما فيها حليفتها روسيا لم تضيع وقتاً، فقد هاجمت مباشرة التحالف الدولي حال إعلانه، لأنّها تعرف أنّ القضاء على داعش، يعني بالضرورة الحدّ من نفوذ وسطوة تلك القوى.

داعش” تلك الحالة الجديدة من التطرف، اشترك في تصنيعها أطراف عدّة، متناقضة ظاهريًّا، ومتشابهة في الجوهر، بشكل مباشر أو غير مباشر، إن بتوفير بيئة النموّ الملائمة لها، أو باللعب الإعلامي والاستخباري، ردًّا على ثورات الحرية والكرامة التي اجتاحت المنطقة، من دون إنذار مسبق.

كانت النظم “التقدمية”، ومنها النظام السوري، رائدةً في تصنيع وتوليف مثل هذه الظواهر القاتلة عبر التاريخ، لاستخدامها في تحقيق أغراض ومصالح سياسية مختلفة. لكن، إذا قاربنا الأمر من زاوية مختلفة، أوسع وأشمل، يمكن القول إن هذا النظام لا يختلف، نهجًا وممارسة، عن داعش وأخواتها، إلا من حيث المظهر العام بابتعاده عن الثوب الأفغاني وتمسكه بربطة العنق، الا ان هذا لا يمنع كون ذلك النظام قد تفوق على “داعش” في إرهابها، وإنَّ مراجعةً موضوعيةً للواقع الراهن والماضي القريب، تظهر، ببساطة، أن ممارساته في سورية تفوق ممارسات داعش أضعاف المرات، وكل قول أو نصّ لا يبدأ من هذه الحقيقة في تحليل الظاهرة الداعشية في سورية يكون أبعد ما يكون عن الواقعية.

من جهة أخرى، لا يمكن تفسير الظاهرة الداعشية ومقاربتها من دون وضع إرهاب الطغم الحاكمة وتأثيراته منطلقًا في التحليل، خصوصًا في بلدان كسورية والعراق. إذ تبدو هذه الظاهرة نتيجة حتمية لفشل هذه الدول في بناء هوياتٍ وطنيةٍ قادرةٍ على إدماج الهويات الدينية والمذهبية والإثنية، ولما أنتجته من كوارث، كتعميم الفقر والبطالة، واكتساح الريف من دون تمدينه، وممارسة التجهيل السياسي، وعسكرة الحياة السياسية، وغزو أجهزتها الأمنية المجتمع، وإفساد القيم والأخلاق، وإفشال النظم التربوية والتعليمية، فضلًا عن أن هذا كله يأتي بالتزامن مع هزيمةٍ مستمرةٍ أمام الخارج سياسيًّا وعسكريًّا وحضاريًّا، بما ينتج أفرادًا مهزومين وعاجزين يبحثون عن ملاذاتٍ آمنة فحسب… نعم، داعش لا تعيش إلا في هذه البيئة من الفشل المزمن.

إلى جانب الدور الرئيس لطغم الاستبداد، ثمّة أدوارٌ أخرى، تؤديها أطراف عدة في توليد الظواهر الداعشية. في هذا السياق، يأتي الدور الانتهازي لحكومات الغرب (والأميركية خصوصًا) التي لا تكترث إلا لمصالحها العارية والمباشرة، والتي جعلت من مقولة “القوّة” المعيار الوحيد في العلاقات الدولية خلال العصر الحديث. رغم تحدّثها عن ضرورة التمسّك بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، الا انها اتّبعت أساليب شتى في نهب العالم، والاعتداء على بشره ومصائرهم.

وثمّة دور أكيد لنظام الملالي في إيران الذي لم يجرّ على المنطقة إلا الويلات، بدءًا من إرساء نموذج الدولة الدينية في الحكم، ومحاولاته الحثيثة لتصديره إلى بلدان المنطقة، مرورًا باستحضار ثارات التاريخ كلها في خطابه السياسي، وإبداعه في تصنيع الميليشيات الطائفية، بما تحمله من روائح طائفية فاسدة تزكم الأنفاس، وانتهاءً بالتدخل المباشر في دول عديدة في المنطقة، كالعراق وسورية واليمن.

وهناك مساهمة أكيدة لبعض أنظمة الخليج التي كانت دومًا قصيرة النفس، ولا ترى أبعد من المحافظة على نظم حكم تقليدية وهشة، بما جعلها تقف ضدّ أيّ إصلاحٍ في الفكر الديني، وسعيها إلى تفصيل الدين الإسلامي، بما يتناسب مع استرخائها.
أما ظواهر الإسلام السياسي التي تصنف لدى كثيرين، أو تقدِّم نفسها، على أنّها معتدلة، فإنّها حتّى اليوم لم تقدِّم أي حالة سياسية مطمئنة، من حيث قناعتها وإقرارها بالدولة الحديثة وأسسها من جهة، أو من حيث احترام القواعد الديمقراطية حتى النهاية. فجميع الحركات والقوى السياسية الإسلامية ما زالت تتعيش فحسب على الزخم الديني الموجود في أذهان الناس وأرواحهم، ولا تعيش من جهدها وتعبها وإنتاجها الفكري والسياسي. ولذلك، شكلت، على الدوام، المحطات الأولى التي ينشأ ويتربى فيها المتطرفون، فضلًا عن أنّ بعض هذه القوى لا يزال يحمل السلاح ويستخدمه، أو على الأقل يهدد به الحياة السياسية.

السابق
اعتصام لأصحاب محطات المياه في صور
التالي
ابو فاعور يعلن بعد ظهر اليوم عن لوائح جديدة في ملف الغذاء