انشغالات التيارات السياسية العربية

عاشت التيارات السياسية العربية، القومية واليسارية والإسلامية والليبرالية، ردحاً طويلاً من الزمن على قضايا، ومشاريع، محاربة الصهيونية والإمبريالية، والدعوة لتحقيق الوحدة العربية، أو الدولة الإسلامية، بيد أنها لم تنجز شيئاً ملموساً في أي منها، بل إن هذه القضايا اعتراها التآكل، بعد أن استهلكت في مجرد انشاءات لا تقدم ولا تؤخّر.

في الغضون لم تُقْدِم التيارات المعنية على مراجعة أفكارها التأسيسية، ولا أشكال عملها، حتى اعتراها التكلس، ودبّ فيها الوهن، وأخذتها الشيخوخة. هكذا جاء “الربيع العربي” يتيماً، ومفاجئاً، وخالياً من السياسة تقريباً، وعلى شكل حالة انفجارية تكاد تطيح كل شيء، المفاهيم والأحزاب والسياسات والمجتمعات والأنظمة والدول (باستثناء الحالتين المصرية والتونسية).
المفارقة في كل ما جرى في المنطقة، أن إسرائيل المصطنعة، والغريبة، تبدو أكثر استقراراً من غيرها، كدولة وكمجتمع، وأن الامبريالية الاميركية تبدو عامل استقرار وتجميع، أكثر مما هي قوة اضطراب وتفكيك، بحكم مصالحها. وقد بينت التطورات أخيراً أن كل القوى، بمعزل عن ادعاءاتها، تطلب التعاون مع الولايات المتحدة، من إيران إلى تركيا، ومن الأكراد إلى الإخوان، ومن الأطراف الشيعية في العراق إلى الأطراف السنية فيه وصولاً إلى النظام السوري، فضلاً عن الدول الخليجية.
المشكلة تكمن، على الأرجح، في ان التيارات السياسية العربية لم تشتغل في السياسة بقدر اشتغالها في الايديولوجيا، وهذا ينطبق على أصحاب الايديولوجيات السماوية والأرضية. وأن هذه التيارات لم تشتغل بالسياسة باعتبارها تخص معاش البشر، وتدبر امورهم الحياتية، وشكل تنظيمهم لعلاقاتهم، وطريقة إدارة احوالهم، بقدر اشتغالها على القضايا العامة، التي لا تحتاج إلا الى مجرد شعار، أو بيان، أو مهرجان خطابي.
هكذا، طوال العقود الماضية انشغل القوميون واليساريون والاسلاميون بالدفاع عمّا يعتقده كل منهم الحقيقة المطلقة التي لا حقيقة سواها، دون ان يشغلوا أنفسهم بمناقشات تخص واقع البشر، كأفراد وكجماعات، وما يواجهونه في حياتهم من تعقيدات في المعاش، والعمل والتعليم والصحة، والعلاقة مع السلطة/الدولة. وفي الأثناء فضلت معظم التيارات المذكورة، في غالب الحالات، الاشتغال بالسياسة تحت سقف النظام، لمجرد الوجود، بدلا من التطلع إلى مراكمة عمل سياسي حقيقي. اللافت أن التيارات المعنية لم تفتح نقاشات جادة ومسؤولة في ما بينها، للتوافق على مفهوم المواطنة، ومعنى دولة المؤسسات، وحول القانون والدستور، والاشكال الأنسب للديموقراطية، وعلاقة الدولة بالسلطة، وحدود السلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية. وبالأساس فقد سكتت هذه التيارات جميعها عن غياب مفهوم مكانة المواطنة في الواقع العربي، بالتلازم مع غياب مفهوم الدولة، فقد كانت مشغولة اكثر بالتصارع مع الامبريالية والصهيونية، في البيانات والمهرجانات.

http://newspaper.annahar.com/article/179799

السابق
العنف كتعبير عن الهوية
التالي
بعد إعترافها بدولة فلسطين.. هل تعتذر بريطانيا عن وعد بلفور؟