من أجل رحلة الى أقاصي السلام: نظرة على العنف وتجلّياته في لبنان

سمير حميد فرنجية
استضاف مركز "تطوير" للدراسات بتاريخ 28 آب 2014 الأستاذ سمير حميد فرنجية، في ندوة ومحاورة تحت عنوان " من اجل رحلة الى أقاصي السلام – نظرة علىى العنف وتجلَياته في لبنان"، وننشر هنا أبرز ما جاء في ندوة فرنجية.

استضاف مركز “تطوير” للدراسات بتاريخ 28 آب 2014 الأستاذ سمير حميد فرنجية، في ندوة ومحاورة تحت عنوان ” من اجل رحلة الى أقاصي السلام – نظرة علىى العنف وتجلَياته في لبنان”. وعنوان الندوة مستوحى من كتاب فرنجية الأخير: Vol au bout de la violence او ” رحلة الى أقاصي العنف”، الصادر أواخر العام الماضي باللغتين الفرنسية والعربية عن دار ” الشرق للكتاب”.

وينشر موقع “جنوبية” أبرز ما جاء في مداخلة فرنجية الذي اعتبر أن “الموضوع واسع ويشغلنا جميعاً، لا سيما وأنه لم يعد نظرياً. فما يدور في سوريا والعراق فيه قدر من العنف جديد علينا. هو ليس جديداً فقط قياساً على ما تعرّض له الأرمن واليهود أوائل القرن الماضي، بل قياساً أيضاً على ما حدث بعد ذلك في كمبوديا وراوندا مثلاً. هذا العنف الجديد مختلف بسبب التكنولوجيا”.
وقال فرنجية: “لم نشاهد ما جرى في كمبوديا – وربما كان اكثر وحشية مما يجري اليوم – بل سمعنا به فقط من طريق التقارير والشهادات اللاحقة. لأول مرة في تاريخ البشرية يشاهد ملايين الناس كيف يُماَرس العنف وتُقطع الرؤوس لحظة وقوع الجريمة. ثمة فرق كبير بين الحديث عن العنف الذي يمارسه الجيش السوري مثلاً ضد المعارضة، وبين ان نشاهده موثقاً بالصوت والصورة لحظة وقوعه. وإذا عطفنا ما نراه اليوم على ما اختبرناه من عنف في حياتنا اللبنانية عبر عقود، أثناء وبعد الحرب اللبنانية، تتبيّن لنا خطورة ما انتهينا إليه : خطورة الأمر أننا – لكثرة ما استدخلنا من جرعات العنف – أصبحنا معتادين على هذا العنف، ونتكيفّ معه كأنه شيء طبيعي!”.

وتحدث فرنجية عن العنف في السلوك السياسي وقال: “لا أعني استخدام القوة لتحقيق مآرب سياسية – فهذا شيء معروف في كل المجتمعات التي لم تنضج سياسياً ومدنياً – بل أعني “العنف الرمزي” في الخطاب السياسي الذي سرعان ما يستولد عنفاً مادياً: قتل رمزي يؤدي الى قتل مادي”.

وضرب بعض الأمثلة من الحياة اللبنانية السياسية العامة:
– مثال أول: بعض السياسيين يستخدمون لغة شارعية في مخاطبة خصومهم، كذلك الزعيم الذي قال عن خصومة ومنتقديه بأنهم جميعاً ” تحت زنّاري!”. مثل هذا السياسي يقول للناس بوضوح: إن ذاك المشترك الذي بيننا ( أي التهذيب واللياقات في الخطاب) لم نعد في حاجة إليه! وبالفعل، بعد اغتيال النائب بيار أمين الجميل، وأثناء حملة الانتخابات الفرعية في المتن لإختيار نائب بديل، جمعتني الصدفة مع المحامي غسان مخيبر في سيارة واحدة؛ وهو كما تعلمون شديد التهذيب ومن أنصار العماد عون. اثناء الطريق التفت اليّ وقال مستنكراً ومتعجباً: سمعت اليوم، في مهرجان الكتائب، كلام غير مقبول على الإطلاق! قلت: وماذا سمعت؟ قال: هناك من وصف العماد عون بأنه كلب! استوقفته متعجباً ومستنكراً أيضاً: قالوا إنه كلب؟! العماد عون كلب؟! قال: هذا ما حدث بالفعل! قلت: لا تعجب يا صديقي فلو لم يسمح “معلمك” لنفسه ٍبأن يخاطب الناس “من تحت الزنّار” لما كنا وصلنا الى هذه الحال!

– مثال آخر على “التّعالي” الذي يولّد الحقد ومن شأنه استيلاء العنف: أصبتُ بانزعاج شديد وخيبة أمل كبيرة لماّ سمعت قائد حزب الله السيد حسن نصر الله يخاطب محازبيه وجماعته الطائفية بقوله ” يا أشرف الناس! يا أعدل الناس! …”. هذا يعني أن الآخرين ليسوا في مستوى جماعته، وقد لا يكونون شرفاء بالمرة! مثل هذا الكلام اعتداء على الآخر المختلف، يؤسس لرفضه، ومن شأنه أن يُطلق مكبوتاً في الجانبين.
وتابع فرنجية: “لنأخذ الآن النموذج الأبرز في حياتنا اللبنانية على مدى عقود، وهو العنف السياسي تحتى مسمَّى “المقاومة” نلاحظ ان اللبنانيين أخذوا نموذج “المقاومة الفلسطينية”، فأطلق الفريق المضاد للوجود الفلسطيني المسلح على نفسه اسم “المقاومة اللبنانية”. الفريق اللبناني الآخر، والمساند للثورة الفلسطينية، أطلق على نفسه اسم “المقاومة الوطنية” … أخيراً طلعت علينا “المقاومة الإسلامية”.
– إذا تأملنا في مسار المقاومات كلها نلاحظ التالي: في البداية تكون تبريرات العنف جاهزة وواضحة في ذهن “المقاوم” الذي يعتبر نفسه في حالة رد فعل على عنف مقابل، وبالتالي فإن مقاومته “مشروعة”. هو في حالة دفاع مشروع عن النفس، وليس صاحب مشروع عنفيّ. بعد قليل لا يعود العنف موجهاً إلى الخصم فقط، بل ينتقل الى داخل الفريق الواحد بهدف إلغاء الشريك المختلف. هكذا انتهت “المقاومة اللبنانية” بحرب إلغاء داخل الفريق المسيحي. وانتهت “المقاومة الوطنية” بحرب ضد المخيمات الفلسطينية وبحرب إلغاء داخل الفريق الشيعي. أما “المقاومة الإسلامية” فتخوض اليوم حرب إلغاء ضد الثورة السورية المطالبة بالحرية والكرامة والديموقراطية!!

– نلاحظ إذاً أن المنطق واحد، من البداية إلى النهاية: لا يستطيع العنف إلغاء الخصم (لا أحد اشطر من احد) فيتوجَّه الى الداخل، أيَّ داخل.

· هناك عنف دائم في معظم أنحاء المنطقة، وعلى درجات تعلو وتهبط في لبنان من وقت الى آخر. اهتمام الناس اليوم يتركز على ظاهرة “داعش” ما بين العراق وسوريا وصولاً الى لبنان. وهذا الاهتمام ليس ناجماً فقط عن إرهاب غير مسبوق يمارسه هذا التنظيم، وإنما أيضاً عن نضج إعلامي في هذه الظاهرة، بحيث استدعى الأمر قيام تحالف إقليمي ودولي لمواجهتها. الناس كلهم يرفضون هذا التنظيم الذي بدا وكأنه كارثة طبيعية أو صاعقة هبطت من السماء! لا أحد يتحدث عن أصول هذه الظاهرة وعلاقتها بكل العنف الذي عشناه على مدى عقود من الزمن. وهذا فخّ نقع فيه، او ثغرة في وعينا تشلّ قدرتنا على اتخاذ موقف متماسك من المسألة: لا نستطيع ان ندين عنفاً ونسكت عن آخر! لا يمكن فصلُ عنف اسرائيل ضد الفلسطينيين ومحيطها العربي عن عنف النظام السوري ضد شعبه، عن عنف “داعش” ضد الأقليات ومن يخالفونها في فهم الدين! لا صدقيَّة للإدارة الأميركية إذا أدانت كل أشكال العنف ولم تُدن جريمة اسرائيل في غزة! لا صدقية لها عندما تقصف “داعش” في العراق وتسكت عن جريمة استخدام السلاح الكيميائي في سوريا! … إذا لم تتخذ موقفاً موحداً ومنسجماً من العنف بكافة أشكاله وفي أي مكان فنحن ذاهبون الى كارثة. خلال الحرب الأهلية اللبنانية كان العنف “مضبوطاً” ويتطور ببطء، وإن تخللته هبَّات قوية. يكفي اليوم سيارة مفخخة واحدة لتفجير الوضع برَّمته طالما أن النفوس مضطربة، وصمَّامات الأمان الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والأمنية ضعيفة.

· من هذه الزاوية أرى أنه قد حان الوقت لرفع شعار “السلام للجميع وبالجميع”. وهذا الأمر يتطلَّب أولاً الإقرار بأن العنف لا يحلّ قضية، وأن الدعوة للسلام ليست موقف الضعيف او قليل “الرجولة”. الجرأة الفعلية اليوم هي القول “لا للعنف!” وبأن البلد لا ينهض إلا بالحوار.

– في محاضرة لي قلتُ إن فريق 8 آذار انهزم في حرب سوريا، ولكن 14 آذار لم يربح! الجميع خاسر! … فإما أن ننجو معاً أو نغرق معاً. لا يستطيع لبنان أن يخرج بمنتصر ومهزوم.

– في مرحلة سابقة تعثَّر نهوض لبنان جرَّاء شعور الفريق المسيحي بالغبن والمظلومية – وهو ما عُرف بالإحباط – لا سيما على أثر انتخابات 1992 التي قاطعها المسيحيون بنسبة 85% في شباط 1994 دعونا الى خلوة مسيحية – إسلامية موسّعة في مدرسة الحكمة، برعاية البطريرك نصر الله صفير والإمام محمد مهدي شمس الدين. وقد أفضت مناقشات الخلوة الى بلورة فكرة جوهرية مفادُها أنه “لا حلَّ طائفياً في لبنان لأي مشكلة طائفية ناجمة عن الاحتلال أو الوصاية أو انتهاك العقد الوطني، وإنما هناك حلٌّ وطني لأي مشكلة من هذا النوع”. على هذه القاعدة عملنا لسنوات طويلة، وكان استقلال 2005. أعتقد أنها مازالت القاعدة الأسلم للعمل الوطني الخلاصي. للأسف انتقلنا بعد العام 2005 من واقع طائفي (إسلامي مسيحي) إلى واقع مذهبي (شيعة، سنَّة، دروز، موارنة، ارثوذكس… الخ) حيث كل جماعة فرعية تعيش في دوّامة الحذر المتبادل، والخوف المتبادل، والهواجس الخاصة. وفي تقديري أن هذا الوضع يدعونا أكثر من أي وقت مضى الى التمسك بقاعدة العمل “الوطني” العابر للطوائف والمناطق من جهة أولى، والذي يقدّم علاجاً وطنياً لأي مشكلة طائفية او مذهبية من جهة ثانية وفي الوقت نفسه. وقد أشار المجمع البطريركي الماروني عام 2006 إلى هذه المسألة بكلمات دقيقة ومعبّرة، حيث قال: “ليس من حلّ لمجموعة دون أخرى، ولا لمجموعة على حساب أخرى”. وهذا يعني بوضوح ان لبنان اليوم لا يستطيع تجاوز أزمته الوجودية بتهميش جديد لأي جماعة، أكانت مسيحية أو إسلامية”.”
وختم فرنجية قائلا: “للأسف، مرة أخرى، ليس لدى أيّ من الفريقين (8 و 14 آذار) تصوّر واضح لما سيأتي، والأهم أنه ما من مبادرات في اتجاه التجاوز. الوضع العام على هذا الصعيد مشدود إلى الخارج وتحكمه ردَّات الفعل. هناك إشارات خجولة تصدر عن الفريقين من وقت الى آخر، وهي تعبّر عن شعور بالمأزق الذاتي، ولكنها غير كافية، لأنها غالباً ما تفتقر الى “البوصلة” … الأمور في البلد متوقفة على سيارة مفخّخة من هنا او هناك! وهذا ما يدعو للخوف. كيف نمنع هذا الأنفجار؟ كيف نحمي البلد؟ آمل أن نتناقش في الإجابة عن هذا السؤال”.

السابق
هاني فحص في مؤلّفه الأخير: المسلمون بين التقريب والوحدة والفتنة
التالي
التقدمي: زيارة جنبلاط لباريس خاصة ولا لقاءات سياسية