أين الأمانة التي حُمِّلَتْ للمسلمين؟

عندما أنشأ القرآن قواعد الحرية المطلقة بقوله: [لا إكراه في الدين] أو عندما خاطب النبيَّ محمداً (ص) بقوله: [أفأنت تُكْرِهُ الناس حتى يكونوا مؤمنين] أراد أن يبقي حرية الاختيار مُقدَّمة على كل ما عداها.

بسم الله الرحمن الرحيم،[لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين].

من الثوابت الراسخة لدى الناس كلهم، من دان بدين متعبداً، أو من أعرض نحو الوجودية الدهرية، أو ما شئت فعبّر من مصطلحات تنطبق على كل فكر غير متدين، أن الإنسان هذا الكائن المتميز إنما يملك سمة الإختيار في أفعاله والأقوال والحركات، وليست حرية الإختيار تلك ما تتحدث عنه الصحف والمنشورات، ولا ما تناضل من أجله المعارضات وغير المعارضات، ولا نعني قطعاً حرية الكمال التي ينشدها المتصوفة والرهبان وأمثالهم، حرية الإختيار هي تلك الومضة النورانية التي تعطي صاحبها أياً يكن القدرة على ان يتبنى فكرة أو يقوم بعمل قد انتقاه من مجموعة أفكار وأعمال بحيث تصبح حرية الاختيار هذه نشاطاً متأصلا في صميم جوهر الانسان لا ينفك عنه، بل إذا خسر هذه الميزة فقد صفة الانسانية فيه وأمسى جسداً تحركه نفس كالأنعام بل هو أضل.

نحن كمسلمين نرى في هذه الحرية الاختيارية وفق ما أملاه علينا إسلامنا وشرائع ربنا انها تدخل في صميم الخلافة الإلهية: [إني جاعل في الأرض خليفة] وفي لب الإئتمان الذي احتمله الانسان، فهذا الاختيار لا ينسجم أبداً مع مبدأ تسيّد أحد على أحد أو تسلطن فئة على اخرى، أو استئصال جهة لشأفة جهة مغايرة، والسبب في ذلك ليس مجموعة من الأدلة القرآنية الكثيرة، أو العشرات من الأحاديث النبوية الشريفة فحسب، بل لأن هذا المخلوق الذي منحه الله حق الإختيار يكون ملزما باستعمال خياراته في الخير، وهنا نجد تجانساً لغويا، إذ أن الخير والاختيار يرجعان الى مصدر واحد وهو مادة: خ ي ر. فكان أن نهى ربنا عن كل ما يتصادم مع الخير ودعا الى مكارم الأخلاق ولذا عرّف بعض الكلاميين المسلمين الدين بكونه: وضعاً إلهياً سائقاً لذوي العقول باختيارهم المحمود الى الخير بالذات قلبياً أو قالبياً: (أبو البقاء، الكليات ص 443).

ويجوز أن يتبدى لعقل امرىء ما لا يظهر لعقل آخر فيختار كل منهما ما يعتقد إصابته فيه لأفضل الخيارات فكان لا بد من ضابطة تبين وجوه الصلاح والإصلاح، ولا أخال شريعة رسمت هذه الضوابط بصرامة ودقة بمثل شريعة الإسلام. بحيث أضحى الخيار الإئتماني هذا محاطاً ومصاناً من التفلت برفيق عاقل يسير معه كيفما سار وهو المسؤولية، التي بدورها تجعل الإنسان موفقاً باختياره من خلال التمييز بين أسس الحق والباطل، وعلى هذا تبقى الحرية قائمة على اطلاقها وتصبح المسؤولية موائمة لها وليست مقيدة لفاعليتها.

ونخلص الى القول: إن سمة الإختيار لدى الفرد المسؤول تدعوه دوماً الى الإستحواذ على الفعل الأمثل، وقد تكفّل الله عز وجل بتسديد الانسان المختار هذا وترشيده ضمن الجبلّة السليمة والفطرة القويمة: [الله وليُّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات الى النور] ومع الأسف وجدنا ان معظم السلطات التنفيذية عبر التاريخ أنشأت لنفسها حقاً جعلت منه ثابتاً لا تنازل عنه، وهو أنها تقوم بإدارة وضبط العلاقة بين الحرية والمسؤولية، وحتى أعتى الديكتاتوريات، جمّلت مذابحها، وشرعنت طغيانها بهذا الشعار، وبحثنا ليس هنا ولا ينبغي أن يكون كذلك، لكن سياق الكلام اقتضى ان نلفت عناية القارىء الكريم الى الفرق بين المبدأ وبين سوء التنفيذ والتطبيق، وهو ما نعاني منه ليس في حاضرنا فحسب، بل عانينا منه في الماضي، وسيرافقنا في المستقبل كنتيجة حتمية لوجود من يحرّف الكلم من بعد مواضعه. فالتحريف بعد وضع الكلم وليس للكلم نفسه.

عندما أنشأ القرآن قواعد الحرية المطلقة بقوله: [لا إكراه في الدين] أو عندما خاطب النبي محمداً (ص) وهو النموذج الأرقى لديه بقوله: [افأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين] إنما أراد بهذا كله أن يبقي حرية الاختيار تلك مقدمة على كل ما عداها. وقد كرّس بذلك قاعدتين اثنتين: أولاهما: عدم إلغاء الآخر وثانيتهما: التعايش مع ذلك الآخر ضمن صيغ صارمة ترعى الوئام والسلم الأهلي. ولذلك وجدنا وبرغم ان العلاقة بين المسلمين والمسيحيين لم تكن سليمة تماما وتخللتها فترات كبيرة من الحوار المسلح، أن المجتمعات الاسلامية على اختلاف مللها ولغاتها وثقافاتها لم تخلُ من مواطنين مسيحيين فيها، بل وغير المسيحيين، لكن النظرة القرآنية الى المسيحيين كانت ولمّا تزل محكومة بشعار المودة، وهو من ارقى تعابير الحب. ولتكون الصراحة سائدة في كلامنا هذا نقول: ليس المطلوب حواراً بين الديانتين لاهوتياً او سياسياً او غير ذلك، وان كان فعلاً حسناً، بل المطلوب اعمق من هذا بكثير، واقصد هنا كيف يكون المسلم خيّراً في اختياره، متديناً ضمن ذلك الاختيار، متعبداً في كل حدود الحرية الاختيارية تلك؟

لقد ذكر القرآن الكريم قصة اصحاب الاخدود وهم على الارجح مؤمنون نصارى ثبتوا على دينهم فخدّ لهم الطواغيت اخدوداً واضرموا فيه النار والقوا من أبى التراجع عن دينه فيه فقال: [قتل اصحاب الاخدود() النار ذات الوقود () اذ هم عليها قعود() وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود]. فهو فضلاً عن تبيانه لحرمة هذا الفعل، وانه لا يجوز لمسلم فعله الا ان يخرج من اسلامه، فقد حمّل المسلمين امانة تتلى في قرآنهم الى يوم القيامة ان يطلقوا اعلامهم من خلال كلام ربهم – وهو اعلى صيغ الاعلام او النفير – لنصرة مؤمنين نصارى ثبتوا على ايمانهم، وشجب فعل الفاعلين بقوله: [قتل اصحاب الاخدود] ثم وصف في امكنة اخرى سيرة لديهم ممدوحة منهم سبحانه بقوله: [ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون] جاعلاً من اولئك الافراد نماذج في التواضع وخدمة الآخر آمراً المسلمين بأقصى درجات الاحترام لهم.

وإن ينسى امرؤ فلا ينبغي له ان ينسى ان وفد النصارى من نجران الذي قدم الى المدينة لمقابلة محمد (ص) دخل الى مسجده الجامع وصلى الى قبلته دون قبلة المسلمين ضارباً ناقوسه، ولما حاول بعض اصحاب النبي ان يتدخل مانعاً ذلك لم يلقَ الا الزجر من نبيه وتمت صلاتهم في مسجد كبير المسلمين دون اعتراض.

اين هذا مما حصل ويحصل اليوم؟ وما هو مصير المسيحيين في المشرق العربي والاسلامي؟ قد يكونون ضحايا لتسويات سياسية، او لعربدات لُبّست لبوس الدين وليست منه في شيء، وقد نجد ابتسامات خبيثة هنا وهناك لما حدث او سوف يحدث. بيد ان هذا لا يجوز ان يشكل عائقاً امامنا لاظهار حقيقة الاسلام. وصحيح ان المطلوب ان يتماسك المسيحيون ويتجذروا في ارضهم ومن حقهم ان يتلقوا كل اشكال الدعم لتحقيق هذه الغاية. لكن ماذا عن المسلمين الذين يشاهدون في كل يوم اخدوداً يُشق ونيراناً تضرم؟ اين هي الامانة التي حمّلهم اياها قرآنهم ورسولهم؟ المسألة ليست منّة يمنّها مسلم على مسيحي أو مجموعة مسلمين على مجموعة مسيحيين. وليست تعاطفاً فرضته اللياقات التعايشية بين الطرفين، وليست ولن تكون مسرحية يجيد الممثلون فيها أداء أدوارهم. ولا تعبّر أبداً عن مصطلحات قد لا يكون لها أساس في أصل التشريع كالذمة وشبهها. المسألة ببساطة كيف يتعبد المسلم في دينه حق العبادة؟ كيف يكون مؤتمناً على خياراته نحو الخير؟ كيف يستحق أن يكون نموذجاً محافظاً على نموذجيته بأن يكون زيناً لإسلامه وليس شيناً عليه. هنا تغدو حماية المسيحيين وحمل مظلومية من يُظلم منهم انسجاماً مع عقيدة وتشريع وليس ترفاً لغوياً، أو مزايدة سياسية، أو مناورة دبلوماسية، ولنفرض أن الظروف جرت عكس ما نشتهي، لكن هذا لا يمنعنا من أن نقيم الحجة بين يدي الله، وللتاريخ الذي سيسجل هذه المأساة حتماً في صفحاته السود.

أيها المسلمون إن في اضمحلال وجود المسيحيين في بلدانهم يجعل من بعض الآيات مفهوماً دون مصداق ومن أفعال رسولكم (ص) غير ذات مواضيع. حذار حذار من تضييع آيات القرآن، والله الله في رسولكم ليبقى لكم أسوة حسنة. هكذا فكونوا حاملين لأمانة السماء أحراراً في اختياراتكم الخيّرة مسؤولين عن تلكم الأمانة وذلك الخيار. فإن بقاء المسيحيين في الشرق بين ظهرانيكم وفي الصدور دليل تمسككم بدينكم ورضوخكم لمبادئ الحق فيه.

 

السابق
كيف يتوزع عدد الضحايا في سوريا منذ بداية الازمة؟
التالي
توزيع 1200 حصه غذائية على النازحيين السوريين في إقليم الخروب