قصة زلفا وسهيل

في زلفا ونشأتها شيء لا يشبه غيرها، عائلة صاحبة قصة. والدها، سليم، من بلدة شمالية صغيرة، بالكاد تكون قرية، «مثل البدر» تقول عنه، يتزوج في شبابه الأول امرأة تكبره بعشر سنوات، هي ابنة أحد المهاجرين الذين كوّنوا ثروة لا بأس بها. امرأة ثرية، «شديدة الثراء» بالنسبة لأبيها الذي كبر في عائلة «مستورة»، صغيرة، لا عزوة لها ولا جاه. يرتضي سليم حياته هذه، في ظل عائلة زوجته صاحبة النفوذ في البلدة. يدوم هذا الزواج عشر سنوات، حتى يلتقي ببدرية، وقد دخلت في سلك خدمة منزله الزوجي، بعدما كثرت أشغال البيت بالصبيين اللذين أنجبهما. وبدرية التي ستكون والدة زلفا، امرأة نشيطة، «جمالها لا ينتهي»، «تمشي قفزاً، كالغزالة»، تقول زلفا. يقع الحب بين سليم وبدرية مثل الصاعقة، لا يمكن تفاديه ولا إخفاءه. وبسرعة قياسية، في أشهر قليلة، يسودها الهمس والتخفي، يقرر سليم أن يطلق زوجته ويرحل عن البلدة نحو العاصمة الشمالية، حيث يبدأ حياة جديدة مع بدرية، من الصفر؛ حياة أخرى، بوظيفة في البلدية، يساعده على إيجادها ابن عمته، بعد عشرات الزيارات الى «مفتاح انتخابي» لأحد نواب المنطقة. يعيش سليم وبدرية حبهما العارم على امتداد حياتهما، وينجبان صبياً وبنتاً، عمر وزلفا.منذ ولادتهما والإخَوان يعيشان في أجواء تسودها تناقضات. اخوتها الصبيان من أبيهم، يلتقيان بهما في المناسبات والأعياد، ويقيسان الفرق بين أوضاعهما، يلمسانها مبكراً؛ الفرق بين الغني والأقل غنى، هذه ليست نظرية عندهم. إنهم فقراء في محيط عائلي أوسع من الأغنياء. درسٌ تحفظه زلفا عن ظهر قلب، تلمس تطبيقاته في تلك العلاقة التي تصفها بـ «الشاذة»، بين أخوة من أب واحد، لا تقوم بينهم أدنى درجات التعاطف أو المساواة، أو الاحترام حتى… «بل احتراميات» تقول زلفا، «بروتوكولية ومملّة»: «يحضران إلى منزلنا في العيد بلباس فاخر، يقبّلان أبي مرغمين، يستلمان عيديته، المتواضعة بالنسبة لهما، وكأنهما يضحيان… واضح إنهما تجرعا حليباً فاسداً…! وإن والدتهما «الراقية» علمتهم كيف ينفذون «الاحتراميات»، التي ورثتها عن جدتها التركية، ولكنها لم تعلّمهم كيف يحبون».

وهذه فصول قصيرة، جانبية في حياة زلفا، تحاول التقليل من أثرها على نفسها. ولها في حياة أهلها خير عون: حياة يسودها الحب يبقى متّقداً بينهما. لا يندمان يوماً على كل ما جرّاه من مصائب على العائلة الأولى. «الحب يعوِّض عن كل شيء»، يردّد أبوها، فتنظر أمها إليه بعين غارقة في الشوق… «تشتاق إليه وهو أمامها!» زلفا وأخيها يكبران بين أب وأم يتنفّسان حباً وحناناً، يتبادلانهما في كل لحظة، كل دقيقة. «الجنة»، تقول زلفا: «كنت أعيش في جنة منزلية، بنسيمها الأليف، المؤنس… وفي الخارج نار الطبقات الحارقة تلسعني، مع الأخوة غير الأشقاء». تناقض على تناقض آخر، هو ذاك الفرق الذي تلمسه زلفا بين عقلية أهلها في البلدة التي تركها والدها سليم، وبين عقلية أهل المدينة الشمالية الأكثر قدرة على تحمّل اختلافات جديدة. ولكن، هذه التناقضات خالية من العنف؛ تكسر حدّتها تلك «الجنة» العائلية التي لا تضطرب يوما، ولا يطرق أبوابها مذلّة أو عوز. فبدرية والدتها تتعلم الخياطة، تشتري ماكينة خياطة بالتقسيط، وتصبح أشهر امرأة في الحيّ، تستقبل زبوناتها بالغناء؛ لا تتوقف عن إنشاد العتابة والميجانة بدرية، وهي تخيّط أو تفصل أو تطبخ «ترقص طرباً بصوتها، مثل عروسة علبة الموسيقى الصغيرة».

كل هذه السعادة لا تثني أخيها عمر عن الانتساب إلى المنظمة، وهو ما زال في الثانوية، ويبقى هكذا إلى أن ينتقل إلى بيروت للالتحاق بالجامعة. وخلال العامين اللذين يفصلهما دراسياً، تأخذ زلفا في الإصغاء إلى ما يقوله أخيها، تلتقي بالرفاق أصحابه، تعجب بحريتهم وخفّة ظلّهم. وعندما تدخل بدورها إلى الجامعة، تصير في كامل الاستعداد لدخول «رسمياً» إلى المنظمة؛ زلفا تدخل في أجواء المنظمة قبل أن تنتسب إليها. تتسجّل في الجامعة اللبنانية مثل أخيها، فرع التاريخ؛ وهدفها، تقول، أن تصبح أستاذة ثانوية، فتعود إلى مدينتها الشمالية لترفع رأس والديها وتعفيهما من مشقّات عملهما المتواضع.

هكذا ألتقي بزلفا. فتاة سعيدة، بهية الطلّة، بعيونها الزرقاء الفاتحة الملتمعة، وشعرها الأسود الفحمي وبشرتها الحنطية الصافية، وليونة جسمها غير المعقولة. عندما تطلب مني تبديل المهمات بغية اقترابها من الرفيق سهيل، وبنوع من الخفر، أقول لنفسي أنني هنا، فوق النضال، سوف أكون شاهدة على قصة حب فورية. ما يسعدني… فأحلق عالياً معهما، أنا الشاهدة الوحيدة على حبهما.

إذن، تبدأ هذه القصة بالمواعيد المحددة لحضورنا إلى العيادة الشعبية المجانية في مخيم صبرا، أي مرتين في الأسبوع. ثم بعد ذلك، يرتفع عدد الزيارات نفسها. «لنبادر ونطلب من الرفيق عماد أن يكلّفنا بالمزيد من المشاركة في أعمال العيادة»، تطلب مني زلفا، بحرقة، «ألا يشجعونا على المبادرة في المنظمة؟ ويقولون بأن الرفيق «المبادر» هو خير الرفاق؟». وأنا، كالخطابة، أتواطأ معها، وأقوم بالمهمة. يوافق الرفيق عماد، وتمر علينا أيام نشارك فيها بالعيادة، أو بالأحرى، يتغازل سهيل وزلفا بالعيون، بالعيون فقط… إلى أن يتفقا على اللقاء في مهرجان خطابي وطني في الجامعة العربية، والانسحاب منه قبل انتهائه، والجلوس معاً في مقهى «الشموع» قبالة الجامعة. في أحد أركان مقهى «الشموع» هذا، يوجد علبة موسيقى، تضع في قلبها عشرة قروش فتستمع إلى الأغنية التي تختار. وأول ما يتفق عليه زلفا وسهيل، ولا يحيدان عنه، على مدى قصتهما، هو عبد الحليم حافظ… «سواح»، «جانا الهوى جانا»، و»زَي الهوى»؛ تضع زلفا القروش في العلبة وتضغط على الاسطوانات الثلاث، وعندما تنتهي، تعود ثانية وثالثة… هكذا، حتى نهاية اللقاء في المقهى، كأنها تحتاج إلى الاثنين معاً: الاستماع إلى عبد الحليم حافظ، والإصغاء إلى سهيل يروي لها فصولاً من حياته. انه من إحدى بلدات الضفة الغربية، التي احتلتها إسرائيل منذ ثلاث سنوات. انه وأهله لجأوا إلى عمان، العاصمة الأردنية، حيث يملك عمه شركة عقارية لها مشاريع في الخليج. وإنه في العاصمة الأردنية استأنف دراسته للطب التي كان بدأها في دمشق؛ وإنه، انضم إلى الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين منذ عامين، وشارك في أحداث «أيلول الأسود» كطبيب وكحامل سلاح، وهو اليوم في بيروت مع المجموعة التي رحلت، لا يعرف تماماً كيف يمضي في دراسته ومهنته. وبالانتظار، يقرأ في كتب الطب، يناضل في صفوف الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، يدير هذه العيادة في المخيم كجزء من النضال، ويسكن في شقة يتقاسمها مع صديقه معتز بالقرب من الجامعة العربية. يعيش مما يرسله له عمه، إذ لا تكفيه مخصصات الجبهة المتواضعة. نموذج الرجل البطل الساحر الضائع… والسحر الفلسطيني أقوى من أي سحر آخر.

تمر أشهر من اللقاءات، ولا أسأل زلفا مرة واحدة عن مدى حميميتها. قبل أن تخبرني لاحقاً حكاية نشأتها، تعطي زلفا إشارات مختلفة عن تلك الصادرة من رفيقات أخريات. صحيح انها تحب الحب، وتلبس «الميني-جوب»، في الجامعة، خارج المخيم، وتقص شعرها على الموضة… ولكنها مصدومة ببيروت، تقول إن «اللياقات» فيها مفقودة، وانها تضيع أحياناً من كثرة حرية الناس فيها. هي ليست مثل سامية، مثلا، التي تقرأ في الروايات الماركسية منذ الصف الثانوي، والتي تناقش والدها بكتاب «أصل العائلة والدولة…»؛ ولا مثل منيرة، وهوايتها الغليظة في حفظ أقوال أنجيلا دايفز أو هربرت ماركوز… هي دخلت المنظمة لأن جو أخيها، خصوصاً بعدما سكنت معه في بيروت، كله منظمة. من دون بطولات ولا قطيعة ولا حتى ثورة. ربما هي متحفظة متقشفة، لا هي تبوح بتفاصيل حميمة، ولا أنا أسألها. فقط تخبرني بمجريات «العلاقة» بينها وبين سهيل. الحب يكبر مع الأشهر، ويطلب سهيل يدها «تتزوجيني؟». «وكيف نعيش؟»، تسأل، هي العارفة بصعاب العيش… «أدخل الجامعة ثانية، هنا، في الجامعة العربية…». يكفيها هذا الجواب، زلفا، هي الآن غارقة في حلم كبير، لا تريد أن تعكر صفوه شجون سخيفة مثل البحث عن كيفية العيش. توافق بغبطة وتحلق في سموات بعيدة. ومن هنا تبدأ نهاية حكايتها مع سهيل. يتصل هو بأهله ويخبرهم قصته ومشروعه، فيطير عقلهم ويطلبون منه التحضير ليسافر إلى الكويت في أسرع ما يمكن، وإلا قطعوا كل شيء. ولا يختلف أهل زلفا عن أهل سهيل، من دون تهديد، ولا ابتزاز. يحبون الحب، هم أيضاً، وهم يتصرفون بحب، يعيشون به؛ «ولكنني يا ابنتي، هل تريدين أن تبدئي حياتك بأقل مما بدأنا؟ أنا وأمك؟ هل تفعليها بنا ونحن في هذا العمر؟ هل سيكون بوسعك متابعة دراستك؟ أن تصبحي أستاذة ثانوية، لو تزوجتيه؟ هو الفلسطيني الشريد؟».

قصة حب تدوم سنة بأكملها. يترك سهيل بيروت إلى الكويت، بعد معاندة تدوم ثلاثة أشهر. يحاول من هناك أن يحثّها على الصمود، يبعث الرسائل المعطرة. يكتب لها أحيانا أبياتاً من الشعر والشوق، يصف لها بكاءه وسهره، يرسم لوحتها كما بقيت في مخيلته. وهي، من جهتها، ترد عليه في البداية، عندما تمر بمرحلة عدم القرار، والتأرجح بين المصائب التي تراها آتية لو بقيت على عهدها به، وبين وجع قلبها، كأن سكين يُغرز به. ولكن النهاية واضحة: قصة زلفا وسهيل، الرقيقة، الشاعرية، لا تدوم ولا تثمر.

(وأنا الآن، أتساءل، لو لم يكن سهيل فلسطينياً، لو لم تكن زلفا من بيئة شقية؛ أو لو كان سهيل أتى إلى بيروت بعدما أكمل دراسته في الطب؛ أو لو كانت أراضي أبيه وأملاكه غير ضائعة في زحمة احتلال إسرائيلي جديد… هل كان تغير شيء في مجرى حبهما؟ هل كانت زلفا ستتزوج طبيباً جراحاً خريج ألمانيا وتهاجر معه إلى الولايات المتحدة، حيث لن يراها أهلها المحبون إلا لماماً؟ وهل سيكون سهيل أحد أكبر مقاولي البناء في الخليج، تضاهي ثروته أغنياءه؟ ومتزوج من أردنية شركسية لها من ملامح زلفا الكثير؟).

السابق
هل تتصدع دولة البغدادي في العراق والشام
التالي
تداعيات أسر المستوطنين الثلاث