هل من دور للتدخّل الخارجي دفاعاً عن حقوق الإنسان؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد أولاً من توضيح ما نقصده بمصطلح “تدخّل”. أحياناً يُفهَم أنه يعني لجوء فريق خارجي إلى استخدام القوة العسكرية داخل أراضي دولة سيادية، من دون موافقة حكومة تلك الدولة – لا بل عادةً يكون التدخّل موجّهاً ضد تلك الحكومة – لكن الهدف المعلَن منه هو مساعدة أطراف أخرى داخل تلك الدولة أو حمايتها.

مثالٌ على ذلك حملة القصف الجوي التي شنّها حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا عام 2011: كان هجوماً مسلّحاً لم توافق عليه بالطبع الحكومة الليبية آنذاك – نظام العقيد القذافي – واستهدف بصورة واضحة ذلك النظام، هذا مع العلم بأن قرار مجلس الأمن الدولي الذي أجاز التدخل في ليبيا لم يأتِ على ذكر ذلك صراحةً.

في حالات أخرى، يُستخدَم المصطلح للإشارة إلى أي شكل من أشكال التدخّل من جانب أطراف خارجية في الشؤون الداخلية لدولة سيادية، حتى لو اتّخذ ذلك التدخل شكلاً غير عنفي و/أو حظي بموافقة الحكومة. بهذا المعنى، يمكن أن يشمل التدخل مثلاً البعثات التي ترسلها الأمم المتحدة أو الحكومات المانحة من أجل مساعدة دولة ما على تحسين قدرتها على صون حقوق الإنسان عبر تدريب القوى الأمنية والسلك القضائي؛ أو البعثات التي ترسلها منظمات دولية للتحقيق في الانتهاكات أو المظالم على خلفية حقوق الإنسان، وتوافق الحكومة على السماح لها بدخول أراضيها؛ أو “عنصر حقوق الإنسان” الذي يُنشَر لأغراض مماثلة، في إطار بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام أو بناء السلام.
قد تحدث هذه “التدخلات” في سياقات حيث “نزلت السياسة إلى الشارع”؛ ويشير قبولها من الحكومة، كما من الأطراف الأخرى، إلى أن لها دوراً بالفعل. لكنها ليست هجمات مسلّحة. عادةً تُنشَر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة نتيجة التوصّل إلى اتفاق تكون الحكومة طرفاً فيه، وتساهم في انحسار النزاع، وبالتالي التقليل من احتمالات تكرّره.
في معظم الأحيان، يكون من الأفضل لو نُشِرت تلك القوات في مرحلة مبكرة – أي في التوقيت الأمثل للحؤول منذ البداية دون جنوح النزاع نحو العنف. لسوء الحظ، يصعب تحقيق ذلك عادةً، لأنه نادراً ما تعترف الحكومات بأن بلدانها تواجه خطر حرب أهلية، أو تلجأ إلى قوة خارجية محايدة لمساعدتها على منع وقوع هذه الحرب، إلا بعد فوات الأوان ونشوب النزاع على الأرض.
بيد أن السؤال الأهم ليس عن التوقيت، بل عن الدور الذي يُتوقَّع من قوات الأمم المتحدة تأديته: هل يجب أن تكون الأمم المتحدة مستعدّة أحياناً للتدخّل عنوةً من أجل منع أو وقف نزاعات دموية تتعرّض فيها حقوق الإنسان للانتهاك على نطاق واسع، بدلاً من الانتظار حتى يتم التوصّل إلى وقف لإطلاق النار قبل نشر الجنود؟ إنه السؤال القديم نفسه الذي يتكرّر دائماً عن التدخل “الإنساني”: هل من المناسب التدخّل في الشؤون الداخلية لمجتمع ما من أجل حماية بعض أعضائه، وفي هذه الحالة، متى يجب التدخل؟
تاريخياً، يُطرَح هذا السؤال من منظار الحق: هل يحق لأطراف خارجية التدخّل، نظراً إلى أنها تنتهك بتدخّلها هذا سيادة دولة مستقلة وتلحق تالياً الضرر بإحدى الركائز الأساسية للسلام العالمي؟ لكن بعض السلطات – لا سيما “اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول” في تقريرها لعام 2001 – أشارت إلى أنه في بعض الظروف، ليس التدخّل حقاً وحسب، بل إنه واجب، أو يندرج في إطار “مسؤولية حماية” المدنيين المهدّدين بالفظائع الجماعية: وهي مسؤولية تقع في المقام الأول على عاتق الدولة التي يكون سكّانها مهدّدين، لكنها تمتدّ أيضاً إلى المجتمع الدولي.
وقد حدّدت اللجنة ستة معايير يجب أخذها في الاعتبار لدى النظر في أي تدخّل عسكري:
1 – القضية العادلة: لا يمكن تبرير التدخل العسكري إلا في الحالات القصوى التي تتسبّب بخسائر في الأرواح أو بتطهير عرقي على نطاق واسع.
2 – حسن النية: حتى لو كانت للدول المتدخِّلة دوافع أخرى، يجب أن يكون هدفها الأساسي وقف المعاناة البشرية أو منعها.
3 – الملاذ الأخير: يجب أن تكون كل الخيارات غير العسكرية قد استُكشِفَت أولاً، مع توافر أسباب منطقية للاعتقاد بأنه لن يُكتَب النجاح للإجراءات التي هي دون العمل العسكري.
4 – التكافؤ في الوسائل: يجب أن يقتصر حجم التدخّل العسكري المزمع ومدّته وحدّته، على الحدّ الأدنى الضروري لتحقيق هدف الحماية البشرية المنشود.
5 – الآفاق المعقولة: يجب أن تكون هناك فرصة معقولة للنجاح في وقف المعاناة أو تجنّبها، بما يُبرّر التدخّل، على ألا تكون نتائج التدخّل المتوقّعة أسوأ من نتائج عدم التدخّل.
6 – سلطة القرار المناسبة: يحبّذ التقرير الحصول على إذن من مجلس الأمن للتدخّل، لكن واضعيه لم يتّفقوا حول ما إذا كان يجب فرض هذا البند شرطاً أساسياً. وقد حاولوا الالتفاف على المسألة عبر التشديد على أن “المطلوب ليس إيجاد بدائل من مجلس الأمن بصفته مصدراً للسلطة، إنما تحسين عمله”.
في نهاية المطاف، أُدرِجت عقيدة “مسؤولية الحماية”، في صيغة محدودة بطريقة مدروسة، في الوثيقة الختامية التي صدرت عن القمة العالمية عام 2005، وأقرّتها بالإجماع كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
بموجب الوثيقة، على كل دولة أن تتحمّل مسؤولية حماية سكّانها من الجرائم الهمجية الجماعية في أربع فئات متداخلة: الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية. أما المجتمع الدولي فتقع على عاتقه مسؤولية تشجيع الدول ومساعدتها على تحقيق ذلك، إنما أيضاً، وبصورة أساسية، “القيام بتحرّك جماعي ملائم، في التوقيت المناسب وبطريقة حاسمة، من خلال مجلس الأمن، وطبقاً لشرعة الأمم المتحدة”، في الحالات التي يظهر فيها بوضوح أن الدولة عاجزة عن حماية أبنائها، “في حال كانت الوسائل السلمية غير ملائمة”.
إذاً ربطت الأمم المتحدة “مسؤولية الحماية” بأربعة قيود مهمة، تتداخل، إنما لا تتطابق بالضروة، مع المعايير الواردة في التقرير الأصلي:
1 – لا تنشأ مسؤولية الحماية إلا في الحالات القصوى: عندما يتعرّض السكان لجرائم مروّعة وواسعة النطاق، أو يكونون مهدّدين بالتعرّض لها.
2 – يُشترَط أن تكون الوسائل السلمية غير ملائمة، ما يفترِض أن تكون قد خضعت للتجربة وتبيّن فشلها.
3 – يجب أن يكون التحرك جماعياً: وهذا يعني أنه يُمنَع على أي دولة القيام بتحرّك أحادي.
4 – يجب أن تمرّ آلية التدخل العسكري عبر مجلس الأمن، ما يعني استبعاد أي تحرّك في الحالات التي تبدي فيها إحدى الدول الدائمة العضوية استعداداً لاستخدام حق النقض (الفيتو).
إذاً بالنسبة إلى الأمم المتحدة، لا مجال للتدخّل عسكرياً في حال أظهرت إحدى الدول الخمس الدائمة العضوية استعداداً لاستخدام الفيتو. هل يجب اعتبارها الكلمة الأخيرة؟ عملياً، كانت معظم التدخلات الفاعلة أحادية الجانب (في شرق باكستان، وكمبوديا، وأوغندا في السبعينات)، أو تمّت من دون موافقة مجلس الأمن (كوسوفو 1999). إذا كان الواجب أو المسؤولية يقتضي إنقاذ الشعوب من هذه الجرائم المروّعة، هل يمكن إعفاء الدول التي تتمتّع بالسلطة والنفوذ للقيام بذلك، من تلك المسؤولية لمجرد أن دولة واحدة استخدمت الفيتو؟ ربما لا، لكن في تلك الظروف، يجب إيلاء اهتمام أكبر للمعايير الواردة في التقرير حول “مسؤولية الحماية”: يجب أن تكون الحالة قصوى، و – قبل كل شيء – يجب التيقّن من وجود فرصة معقولة للنجاح، ومن أن النتائج لن تزيد الأمور سوءاً. ففي معظم الأحيان، سرعان ما يتحوّل مَن يلقون ترحيباً في البداية على أساس أنهم المنقذون، قوة احتلال أجنبية ممقوتة عالقة في “مستنقع” من حرب العصابات. هذا، وليس المأزق في مجلس الأمن، هو السبب الأساسي وراء عدم محاولة التدخّل عسكرياً في سوريا.

 
السابق
التطاول على الراعي يستدرج تضامناً وطنياً
التالي
من أجل جمهورية جديدة