النقابيون المساكين

يتعرض النقابيون، قيادة وقاعدة، لظلم كثير في الصحافة ووسائل التواصل وفي الأوساط السياسية والاقتصادية، وحتى من الوسط النقابي ذاته، ويتعرضون لهجوم حاد تستخدم فيه ضدهم الأرقام المالية وتقام المقارنات بين الأجور في الإدارات الرسمية أو في قطاع التعليم ، ويشار إلى فائض من العاملين في المدارس وفائض من المتعاقدين سنويا من غير لزوم، وإلى تدهور قطاع التعليم الرسمي، وتثار المخاوف على الاقتصاد الوطني إذا ما أقرت السلسلة ، الخ.

غير أن النقابيين “مساكين” لثلاثة أسباب لم ترد في أية لائحة اتهامية موجهة ضدهم. هم مساكين لأن مطالبهم محقة بضرورة إقرار سلسلة بعد أن أكل الدهر على السلسلة القديمة وشرب، طيلة عقدين من الزمن تضاعفت فيه الأسعار وبقيت أجورهم فيه على حالها.

لكنهم مساكين لأنهم لم يكتشفوا أن الأجور ليست وحدها التي تآكلت مع الوقت، بل العمل النقابي كله ، وصارت قيادة الاتحاد العمالي العام والنقابات والاتحادات المنتسبة إليه، ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية ورابطات الأساتذة في التعليم الرسمي ، نسخة طبق الأصل عن تركيبة السلطة الحاكمة ، وفقدت بذلك هويتها كمنظمات “غير حكومية”، وتحولت إلى هيئات مجندة في خدمة السلطة وبعيدة عن هموم “الطبقة العاملة”… ويتضاعف هول “المسكنة” حين يشخصون الأزمة المستجدة بفعل انهيار المنظومة الاشتراكية ويقترحون لها حلا “بسيطا” جدا جدا، لأنه حل لغوي يقضي بتبديل اسم “الرابطات” وتحويله إلى “نقابات”.

وهم مساكين ، وهذا هو المأسوي، لأنهم يجهلون أهم ما في تاريخ النقابات وفي دورها. نشأت بقرار من الأحزاب الشيوعية والاشتراكية ، لتكون ذراعها النضالي في المجال الاقتصادي الاجتماعي على أن يشكل الحزب ضمانتها السياسية وبوصلتها التي لا تخطئ عدوها الطبقي. هي تواجه أرباب العمل من أصحاب المصانع والمعامل والمتاجر والمصارف والشركات، الخ ، بغية أن تكون المواجهة أحد الروافد النضالية التي تصب في النهر السياسي للحزب .

كأن النقابات اختصت بالقضية الاجتماعية وحدها وتركت لبوصلة الحزب تحديد البعد السياسي. الطامة الكبرى هي أن الحزب شطح ، في أيام ذروته، نحو تحليل اقتصادوي ، وغرق في تفسير ميكانيكي لمصطلحات ومبادئ النظرية الماركسية ، فانحصر الصراع الطبقي ، من وجهة نظره ، بمواجهة مع مالكي الثروة المالية، أي “حيتان المال”، أو الطغمة المالية، مواجهة مآلها النظري تغيير جذري في النظام الاقتصادي من عناوينه التأميم واستبدال الاقتصاد الحر بالموجه والراسمالية بالاشتراكية. الطامة الكبرى هي أن الاشتراكية انهارت وما زالت النقابات تحمل برنامج التغيير الاشتراكي بحرفيته النظرية، وإن كانت قد قدمت تنازلا على الصعيد العملي، فلم تعد تطالب بالتأميم مثلا.

أول ما ترتب على هذا التفسير المغلوط والمشوه، في ظل غياب الحزب والبوصلة السياسية ، هو تحييد السلطة وإعفاؤها من أية مسؤولية على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي، ووضعها في منأى عن الصراع “الاقتصادي” وجعلها حكما بين طرفي الانتاج في العمل المأجور، وقد ترجمت هيئة التنسيق النقابية ذلك، كما الاتحاد العمالي العام، في مواقفها وخطب قادتها تملقا للقيادة السياسية وتحالفا مع الأحزاب التي ساهمت في تدمير النقابات ، ومضت إلى نهايات التحليل المغلوط بحثا عن صيغة للانقاذ الوطني تحت نهج قوى “الممانعة” بالذات، التي تولت عملية التدمير تلك .

خطأ هيئة التنسيق النقابية في تحركها ناجم عن تفسير مشوه للماركسية وعن ممارسة مشوهة للعمل النقابي. فلا يجوز وضع السرقات على السوية ذاتها . فالنهب الرأسمالي الذي تحدث عنه ماركس شيء (نهب القيمة الزائدة) ونهب المال العام شيئ آخر. النهب الأول لا يمكن أن يتم إلا بتشريع من السياسيين، وبالتحديد من المجلس النيابي . أما الثاني فهو السرقة الموصوفة ومرتكبه هو اللص الحقيقي. والفارق الثاني بين نوعي النهب ، هو أن من تسميهم هيئة التنسيق “حيتان المال” هم الذين ينقذون الاقتصاد الوطني عند تعثره وبالتالي ينقذون الوطن والدولة، وهم بالطبع لا يفعلون ذلك من دون مقابل، لأن ذلك من قوانين الرأسمالية التي تحدث عنها ماركس. أما اللصوص الحقيقيون فهم الذين لا تتوقف جريمتهم عند حدود السرقة بل يتسببون بفعل ذلك بانهيار مالية الدولة والاقتصاد الوطني والدولة. مع ذلك، تجد هيئة التنسيق النقابية نفسها ، بسبب هذا التفسير المغلوط بالذات، متحالفة مع اللصوص ضد حيتان المال.

من ناحية أخرى، يعرف العريقون في العمل النقابي، أن ” الحيتان” أكثر مهارة من الأسماك النقابية الصغيرة ، لأنها تعرف كيف تعطي باليمين لتستعيد باليسار، وأن حركة مطلبية من غير أفق سياسي تتحول إلى ألعوبة في يد السياسيين، وأن على النقابيين واليساريين والعلمانيين أن يواجهوا الأكثر خطرا، لا على لقمة عيشهم فحسب، بل على مصير الوطن والدولة . ربما كان النضال ضد الفساد ومن أجل سيادة القانون هو الذي يحمي الوطن من كل أنواع اللصوص.

 

السابق
قبلان: لماذا لا نتوافق على اسم رئيس ما دام الجميع يعمل لإنقاذ البلاد؟
التالي
ايجابيات زيارة الاراضي المقدسة تتفوق على محاولات تعكيرها