‘خيبة أمل’ أميركية من الفلسطينيين: عن أي أمل نتكلم؟

محمود عباس

تريد واشنطن ضبط تحرك السلطة الفلسطينية فوق السطح السياسي داخل مساحات ومفردات تقرّها هي وتفهمها. ولذلك، لم تستنكر طلب انضمام فلسطين إلى 15 منظمة دولية الذي تقدمت به السلطة قبل أسابيع قليلة رداً على إخلال إسرائيل بتعهدها إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى لديها، وهو العنوان الأخير لتعقد المفاوضات مع إسرائيل، وكان يمكن أن يكون أي عنوان آخر، ولو أن مسألة الأسرى تمتلك في الوجدان العام الفلسطيني مكانة خاصة تجعلها أكثر حساسية من سواها.
لكن واشنطن تعلن «خيبتها» و «انزعاجها» من اتفاق المصالحة بين منظمة التحرير و «حماس»، المعلن من غزة قبل أيام، وتعتبر «توقيته» مثيراً للمشاكل و «قد يعقد الأمور». والإشارة الى التوقيت تتعلق بالطبع بموعد 29 نيسان (أبريل)، التاريخ الرسمي لانتهاء التفاوض، الذي سعى الوزير كيري الى قبول الطرفين بتمديده، فتحولت هذه المسألة إلى نقطة المركز من السجال السياسي الدائر والإجراءات المتخذة.
وموضوع الموعد ذاك يصلح كمثال على الممارسة السائدة حيال المسألة الفلسطينية. فالتوتر حياله، وحوله، المبالغ فيه في شكل مدهش، لا يمكنه إلا التنبيه على مقدار فراغه وافتعاله. والمعلوم أنه لا جهة تناقش في مبدأ التفاوض بذاته. وأن لحظة الشك في التفاوض نفسه لم تحن بعد ولم تتوافر شروطها. وفي كل الأحوال، فخصائص «التشابك على الأرض» تجعله أمراً محتوماً طالما أن قدرة أي من الطرفين على تصفية الآخر معدومة.
ليس ذلك إذاً هو الموضوع، بل التفاوض حول ماذا؟ السلطة الفلسطينية وُعِدت بدولة عاصمتها القدس الشرقية، وهي مستعدة للتنازل عن الكثير من خصائصها السيادية، لكن هناك حداً أدنى لا يمكنها التخلي عنه وإلا ظهرت كمجرد وكيل عن إسرائيل، علاوة على معرفتها التامة بأن ذلك «لا يمشي»، وسيولِّد ردوداً لدى الفلسطينيين غير قابلة للحساب. وتل أبيب تريد تطويع السلطة بأكثر مما نالته حتى الآن، لتحويلها مجرد إدارة ذاتية مدنية بالمعنى الحرفي للكلمة. وهي قد ترضى (على مضض) ببعض المظاهر الديبلوماسية المحيطة بالسلطة، لكن النظرية الأساسية التي سادت في العقدين الماضيين، أي في أعقاب أوسلو، ولا مفارقة هنا، تشير إلى مفهوم «غذائي» للموضوع الفلسطيني: ينال اللاجئون تعويضات سخية، ويجري إيجاد حل لاكتظاظهم في بعض الأماكن «الحساسة» (خارج فلسطين كلبنان مثلاً، ولكن أيضاً داخل الأرض الفلسطينية!) فتتبرع دول قصيّة لاستقبالهم واستيعابهم، وتشجعهم على الهجرة اليها وتضع لهم حوافز إضافية. ويقال إنه في المفاوضات الخلفية الإقليمية والدولية التي لا تتوقف، وخلال «عصف الأفكار»، اقتُرح ربط التعويض بالهجرة. وتلك الدول تحتاج على أية حال إلى سكان وقوة عمل. ويمكن هذه التصورات أن تفسر تلك الجملة التي يكررها الجميع، حول «واقعية» مبدأ حق العودة للاجئين، وتأويلاته المختلفة. والفكرة أن يجري تحسين أوضاع السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وحتى قطاع غزة، وهو على أي حال ما لم يكف نتانياهو عن الإشارة إليه تحت مسمى «السلام الاقتصادي»، وتبناه علناً فلسطينيون مسؤولون ووضعوا خططهم التفاوضية بناء عليه.
يصطدم هذا الوضع بمجموعة من المعطيات، ليس أهمها من «سيدفع»، فهذه مقدور عليها، ولا كيف يمكن حمل الفلسطينيين على الرضوخ لوضعية فيها مقايضة واضحة لـ «القضية» بالعيش اللائق (وهذه يظن أبطال تلك النظرية أنها ممكنة، ويتّكِلون على عقود من التيئيس عبر مزيج من القمع والإفقار وسد الآفاق).
بل المعضلة الكبرى والتي لا حل لها، هي: كيف تطمئن إسرائيل. ويرجع ما يبدو أنه استحالة على هذا الصعيد الى أسباب بنيوية تخصها، متصلة أولاً بوقائع التاريخ اليهودي التي لم يحتفظ الوعي السائد حياله والمدعم بالسردية الصهيونية إلا بجانب «المظلومية» القائمة فعلياً على «التنابذ» مع العالم، وثانياً بمفاصل النظرية الصهيونية كما قدمت نفسها لأتباعها، وبالأخص منها فكرة «الأرض بلا شعب»، وفكرة «اليهودي الجديد» القوي المتفوق، الجاري بناؤه كنقيض لذاك الذليل والمضطهد (هذان على الأقل وليس حصراً)، علاوة، أخيراً، على تاريخ فعلي (وليس إيديولوجياً فحسب) من العدوان وارتكاب المجازر الذي مهما غُلِّف بالتبريرات والمحاجات إلا أن المعرفة الحميمة بحقيقته تبقى قائمة… ومرعبة. وتبدو البارانويا الإسرائيلية متينة إلى حد أنه لن يكفي لتهدئتها وعقلنة المسلك الإسرائيلي أي إعلان: لا أن يقر بيهودية الدولة ولا أن يبصم كل الفلسطينيين على التسليم لها بما تشاء. إسرائيل تحلم باختفائهم. والمعضلة أنها حتى لو اختفوا فهي ستصطدم بمحيطها: ماذا ستفعل بكل هؤلاء، يحضرون ساعة باسم العروبة وأخرى باسم الإسلام وثالثة باسم المبادئ الكبرى كالعدالة والحق الخ…
السؤال إذاً يتعلق بكيفية إدارة هذه المرحلة والسير فيها بانتظار أيام أفضل، قد تبلور حلولاً شاملة وتاريخية، لا تستند على المحْق المتبادل أياً تكن مفرداته. السلطة تفاوض وتناور بمنطق الضغط على إسرائيل وأميركا والأمم المتحدة للحصول على إطار يمكنها الاعتداد به. ومن ذلك تحويل الانتماء إلى منظمات الأمم المتحدة إلى ورقة ابتزاز. ومنه التلويح بحل السلطة، وهو ما سماه الأميركيون في صحفهم «التهديد» به، لأن السيد عباس نبّه الإسرائيليين إلى أنه، لو استمروا على هذا المنوال، فـ «ستكونون مسؤولين عن الأمن والتعليم والصحة» لملايين الفلسطينيين. وهو ما لا تريده إسرائيل بالطبع. ولكن هذا المنطق يندرج فحسب في خانة التفاوض على شروط الوكالة، بغاية تحسينها. وينظر الى اتفاق المصالحة الأخير بالمنطق نفسه.
يبني الفلسطينيون مسلكهم على وهم انتزاع الدولة أو فتات منها. يتعجلون الحسم، وهو على كل حال غير ممكن؟ كيف يمكن تحقيق تلازم تحسين شروط حياة الفلسطينيين (وبالأخص منهم المُعدمون وليس الشريحة المرتبطة بالسلطة وبالهيئات المدنية العالمية)، والتحضر ليوم يتحقق فيه تعديل ميزان القوى (ومن السخف حساب كل العناصر وافتراض توقعها، وكل مسلك من هذا النوع استاتيكي ويظن أن التاريخ محتوم)، عبر تعزيز الوحدة السياسية الفلسطينية، وتصفية الفساد في صفوف القوى الفاعلة، والانضمام إلى كافة المنظمات الدولية… والاستعداد الكامل لحل السلطة فعلاً، وتسليم إدارة الحياة في فلسطين للأمم المتحدة تتدبر شأنها بصددها… وهي لن تكون أسوأ مما ساد في ظل السلطة أو في ظل «حماس»!

السابق
الزبداني و معركة المنفذ الأخير إلى لبنان
التالي
حراك دولي على محور الرئاسة.. وجهات دولية تفضِّل سلامة