ثم يحضر الرفيق سعيد، متأخراً بعدد الدقائق نفسها التي أوصلته إلى الإجتماع الأول. يدخل بعبوسه المعهود، يسترق النظر إلى غرفة عارف، لا يريد التعبير عن إعجابه بها. ثم يأخذ مكان الصدارة، فوق الكنبة، ويبدأ الاجتماع، بعدما يكون عارف قد نزع الإبرة عن البيك آب وأطفأه. يسحب سعيد من جيبه ورقة وقلماً، ويتلو جدول الاجتماع، فنسجل نحن أيضاً البنود، بورقة وقلم؛ «الوضع السياسي العام»، «الأعمال الفدائية في الجنوب»؛ ثم بند «المهمات». المشاركة في تظاهرة التأييد لنضال الفيتكونغ ضد الجيش الأميركي المحتل وحلفائه من فيتنام الجنوبية، نظراً للرابط العميق بين حرية فيتنام وحرية فلسطين. وأيضاً، المشاركة في حملات التبرع الشعبية من أجل الفدائيين الفلسطينيين. لا يحتاج الرفيق سعيد إلى التوسع في ضرورة هذه المشاركة. نحن هنا متأهبون، نحن هنا من أجل أن نفعل، أن نتحرك، أن نخوض، أن نقتحم… نحن كلنا حماسة، وحملة جمع التبرعات من أطيب المهمات على قلوبنا؛ بعد التظاهرات طبعاً، خصوصا تلك التي تشهد قمعاً بوليسياً، على حدّ قولنا.
يوزعنا الرفيق سعيد إذن مجموعات، كما هو مقرر في خليته المشرفة على حلقتنا: انا وعارف، نغطي منطقة الروشة، جان وغسان في المزرعة، سامية والرفيقة ناديا، التي هي من حلقة أخرى، وقد اتفق الرفيق سعيد مع أعضاء خليته بأنه سوف «يستعيرها»، من أجل تنظيم حملات التبرع على أفضل وجه؛ الرفيقتان سامية وناديا ستغطيان الخندق الغميق.. يختم سعيد الإجتماع «تكونوا كلكم في مركز الرواد الساعة الثامنة من يوم الأحد المقبل، من أجل تسجيل أسمائكم، واستلام الصناديق، ثم الانطلاق».
في اليوم المقرر، أخترع مراجعة للإمتحانات المقبلة عند زميلتي في الصف أمال. ألبس الثياب المناسبة، بنطلون وقميص عريض، أضع على رأسي قبعة «غيفارية»، تعلوها نجمة حمراء، وهذا ما سوف أعتمده لاحقاً في مهماتي الحزبية. أحب غيفارا، ليس فقط لأنه ثوري، مثلي، مثل المنظمة التي أنا بصدد الإنتساب الجدي إليها… ثوريته بالتأكيد لها دور. ولكن عيونه الساحرة، الناظرة بحزن وعمق إلى أبعد مما أرى، الجاذبة للشمس. علّقتُ هذه الصورة في غرفتي وإلى جانبها صورته الأخرى وهو مسجي في إحدى مشارح بوليفيا، ورصاصات تخترق صدره، وفوق رأسه جنود يحرسون جثته.
أما عارف، عارف الوسيم، الأحمر الشعر، ذو السوالف العريضة، وبنطلونه «البات ديليفان»، العريض الرجل، فيبدو مثل ممثل سينما. أفرح لمشاركة عارف معي في هذه الحملة. هو لا يمشي على رجليه، إنما يتطاير بهما، يبحث عن قطعة خشب، عن حجرة معتلية، عن حفرة، عن باب مجرور، ليقفز فوقها، مثل حصان أضاع فجأة سبيله المرسوم. عارف يحب التهريج أكثر من الخطط. كل منا يحمل صندوقاً وينظر إلى الآخر بشيء من التواطؤ؛ كأن اختلاءنا ببعضنا يضع خطوطا مشتركة بيننا وبين الآخرين من الرفاق. ما الذي يجذبني نحو عارف، غير تمتعي بالنظر إلى جماله؟ كوننا نتحدث الفرنسية، ربما. داخل الحلقة، نخجل من كوننا على هذا القدر من الفرنكوفونية. لا نتفوه بكلمة فرنسية واحدة، إلا إذا أضعنا تركيزنا. هو وأنا على الموجة نفسها؛ نريد ان نتكلم العربية بالقدر المستطاع. بل بأكثر منه احيانا. أنا من جهتي، عندما تعصى عليّ الكلمة بالعربية، أسأل عنها، أقرّب المعاني اليها. أما عارف، فيسجلها على دفتر صغير، تلك الكلمات المستعصية، والى جانبها «ترجمتها» العربية. سألته ونحن خارجين من النادي إن كان دفتره هذا قد امتلأ أم بعد بالمفردات المترجمة. «نعم امتلأ… وانا الآن في الدفتر الثاني»، أجاب، بشيء من الإعتزاز.
الروشة، يعني انه علينا ان نأخذ سرفيس إلى البلد، ومن ثم الروشة. نبدأ نضالنا بصحن كنافة عند الديماسي؟ في البلد؟ ما رأيك؟ يقترح عارف. وعلى من يقترح؟ علي أنا…؟ طبعاً طبعاً! أحب الحلو العربي وغير العربي. من أين اكتسبت فرنسيتك هذه يا عارف؟ أسأله. من طفولتي التي أمضيتها في سويسرا، حيث كان والدي مديراً لمصرف فرنسي. والدك مدير مصرف؟ نعم، ولكن لا أقول ذلك للرفاق، كي لا ينعتوني بالبرجوازي. وهذه صفة غير مستحبة بين الرفاق، كما تعلمين. نعم نعم أعلم. حزرت شيئا من ذلك، ولكن لم أتصورك إبن مدير مصرف. يتنهد عارف، على غير عادته، ويصمت.
من حلويات العريسي وحتى كاراج سرفيس الروشة تحت سينما كابيتول، نمشي قليلا، ويعود عارف إلى النطْنطة. لا يسعه تهذيبه عارف، كأن تهذيبه ثوب ضيق عليه. والقفز فوق هكذا، من دون وجهة ولا سبب غير التماس الهواء ينبئ عن ملل ما، لا أعرف نوعه.
في الكاراج، يكون ذاك المنادي العجيب، الذي لا يصل طوله إلى المتر ونصف، شبيه توفيق الدقن، النجم المصري المتخصص بالأدوار الإجرامية، ولكن صوته مثل الدويّ، جهوري جبار، يملأ ساحة البرج كلها، من دون رفة جفن: «روشة! مزرعة! ساسين! فسوح!» ينادي على باب سينما كابيتول بوجاهة لا تشبه شكله. وعندما يصل إلينا، هذا الصوت، ونحن ما زلنا في العازارية، نطمئن اننا وصلنا، وبأننا سوف نرى وجهه ينقلب من التكشير إلى الإبتسامة العريضة، عندما يرانا حاملين صناديق التبرع للفدائيين ونسأل عن سرفيس الروشة (…).