لا إصلاح بل مغامرة

الحرب الاهلية

عشية الحرب الأهلية (1975) كان يظن كثيرون أن الرأسمالية اللبنانية لن تضحّي بمكتسباتها وامتيازاتها وموجوداتها، ولن تقبل بانهيار الدولة وانتشار الفوضى التي طاولت جزءاً مهماً من مصالحها الصناعية والتجارية. إن رهاناً واسعاً جرى على فئات طائفية واجتماعية وسياسية من أجل وقف موجات العنف وانطلاق المبادرات لحل سياسي عبر الاستجابة لحاجات الإصلاح وإزالة قيود التخلف في النظام السياسي، ولا سيما هيمنة الإقطاع السياسي الطائفي وتطوير الدولة المدنية الديموقراطية، وتصحيح العقد الاجتماعي، وتعزيز معطيات الدولة الراعية. لكن هذا الظن وهذا الرهان سقطا سريعاً أمام رضوخ الرأسمالية لمغامرات القوى السياسية الطائفية وغياب التمثيل السياسي القوي والمستقل، ولأسباب تتعلق بطبيعتها الريعية الغالبة وقدرتها على التكيّف مع الفوضى نفسها. أدارت الرأسمالية اللبنانية جزءاً من عمليات تمويل الحرب وتسليحها ورعت المؤسسات الطائفية على ضفتي النزاع، ولم تبادر إلى طرح برنامج إنقاذ وطني، ولم تحمل أفكاراً تساعدها على التخلص من عبء الكلفة التي تدمغها لإرضاء مصالح الفريق السياسي الحاكم، وهي نفسها شاركت في الارتداد على الإصلاحات الاجتماعية للعهد الشهابي.
بعد الحرب انخرطت في نظام الوصاية الأمني المافيوي وساهمت في كل السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي قادت البلاد إلى المأزق الراهن.
ما يحصل الآن أن الرأسمالية تتذرع بالفساد السياسي وتراكم المشكلات لكي تضغط مجدداً على القوى العاملة والمنتجة لقبول شروط اجتماعية لم تعد توفر الحد الأدنى للعيش الكريم، بل للأمن الاجتماعي. تزعم أنها تريد مواجهة الفساد السياسي لكنها لا تنضم فعلاً إلى “جبهة القوى الإصلاحية” في هذه المعركة المفصلية لتصحيح السياسات الضريبية ووقف الهدر والنهب والفساد.
بالفعل البلد يواجه أزمة اقتصادية قد تتحول إلى انهيار، لكن ليس بسبب إقرار سلسلة الموظفين وبعض الموارد الضريبية، بل بسبب تركة الفساد الثقيلة ومنها الإدارة ذات الشغور الهائل في الملاكات الضرورية والكفاءة، وحجم المحسوبية والزبائنية والامتيازات الطوائفية التي لحقت بهذه الإدارة ولا يجرؤ أحد على المس بها. صحيح أن الإصلاح في الإدارة كان يجب أن يكون أولوية، لكن ما شأن ذلك بالقوى الاجتماعية التي تبحث عن الحد الأدنى من العيش الكريم وما مسؤوليتها في ذلك؟
أنشأت الحكومات المتلاحقة أوضاعاً شاذة في الإدارة وميّزت بشكل فاضح بين الأسلاك والمراتب والامتيازات، فضلاً عن الإدارة الرديفة. ومن المنطق العودة إلى هيكلة الإدارة وفق معايير عادلة. لكن هذه الأوضاع تحميها مصالح سياسية كبرى ولا يتحدث عنها أحد بالوضوح الكافي.
أما الإقطاعات المالية الوظيفية في المرافق الحيوية التي جرت الإشارة إليها، في المرافئ الجوية والبحرية والبرية (الجمارك) والدوائر المالية والعقارية وفي المجالس والصناديق ووزارات الخدمات، فهي جزء من التوازن السياسي الطائفي الذي يقوم عليه تضامن الفريق الحاكم السياسي والمالي.
أدى التلاعب والمخادعة في تلبية المطالب الاجتماعية إلى هدر الوقت وتضييع فرص البحث الجدي العقلاني عن مخارج، وسيطرت الشعبوية المتقابلة، ولم تعد هناك مصداقية لأي محاولة في ربط الإصلاح بإقرار السلسلة. لكن السؤال الأساسي هو هل يريد الفريق الحاكم السياسي والمالي الخوض في موضوع الإصلاح أم أن ذلك مجرد حجة وذريعة لإحباط المطالب الشعبية؟
كل الدلائل تشير إلى ضعف الالتزام الوطني لدى قوى رأس المال وسعيها الدائم للفوز بالربح السريع وضمان هذا الربح بمعزل عن مصير الدولة والوطن وطبعاً عن الموارد البشرية. لا مانع لدى هذه الفئة من استبدال القوى العاملة بقوى أجنبية أو الاستثمارات أو الودائع أو مصير ثروات البلاد العقارية والطبيعية. لا رأي لهذه الفئة في العلاقة بين الاقتصاد وسيادة الدولة، ولا اعتراض لديها على منطق الاستيلاء الذاتي الذي قامت به الطبقة السياسية النافذة على امتيازات هائلة من بينها أملاك الدولة العامة. لذلك يزداد القلق فعلاً من غياب كتلة مصالح وطنية سياسية واقتصادية ذات قاعدة شعبية لمعالجة المأزق الاقتصادي الذي تتزايد مخاطره. هذه المخاطر لا تأتي من تصحيح الرواتب والأجور وتغطية غلاء المعيشة، ولا من بعض الضرائب المباشرة الخجولة المقترحة أو تحسين استيفاء بعض حقوق الدولة، بل من التمادي في تمويل الطبقة السياسية وجمهورها وزبائنها وجشعها من موارد الدولة من دون حسيب أو رقيب. وليس أدل على ذلك من قرارات وقف التوظيف لملء الملاكات الشاغرة وانضمام عشرات آلاف من موظفي الإدارة الرديفة والمتعاقدين والمياومين والأجراء وإعادة تثبيتهم في عمليات سياسية ليست شعبوية بل “خواتية ميليشيوية” لحساب هذا الطرف أو ذاك. فهل نكون أمام العجز والفشل والمخادعة والمصالح الفئوية في الطريق إلى حركة إصلاحية حقيقية أم نكون أمام حرب “تطفير وتهجير” مستمرة لمواطني هذا البلد؟

السابق
مَن يضمن إرادة إيران الاتفاق مع أميركا؟
التالي
رئيس عتيد لربط نزاع أم لحل نزاع