لندن تموت .. ماذا عن بيروت؟

«لقد رأيت المستقبل، والمستقبل هو باريس وجنيف».

حين يكون مطلع مقالةٍ ما مزيناً باثنتين من أجمل مدن أوروبا، يُخيل للمرء أن كاتبها يمدح حالة يعيشها المكان المذكور. لكن أليكس براود، في صحيفة «التلغراف» البريطانية، يريد أن يقول خلاف ذلك. فمدينة الضباب، لندن، تفقد بريقها شيئاً فشيئاً، أقله، من وجهة نظر عديدٍ من سكانها.
لم يعد بمقدور قطاع كبير من الطبقة الوسطى أن يعيش على مقربة من وسط المدينة. دُفع هؤلاء، أو جلهم، إلى الأطراف، وحلت مكانهم ثلاثة أنواع من المجموعات السكانية: فاحشو الثراء المحليون ومنافسوهم الأوروبيون والخليجيون وتجار العقارات ومستثمروها.
لم تتمكن لندن، بحسب الكاتب، من المحافظة على ميزانها الدقيق الذي يجمع بين روحها الثقافية وحيوية سكانها من ناحية، وبين كونها مركزاً مالياً وصناعياً عالمياً من ناحية أخرى. وجاء إفراغها من الطبقة المبدعة فيها، وهي المُشكَّلة أساساً من مئات الآلاف من طلاب الجامعات، لينزع من رونقها الكثير، وليطرح مقارنة بين مسارها الحالي وما آلت إليه كل من باريس وجنيف. والاثنتان الأخيرتان جميلتان بالتأكيد، لكنهما خسرتا من روحيهما الكثير. فباريس «نُظفت» طبقياً ليعيش في وسطها أغنياء القوم ولتنتعش على هامشها التوترات الإثنية بين الفرنسيين الأصليين والمهاجرين. فيما جنيف تخلصت من طبقتها «العاملة» تماماً، ولم تبقِ لها هامشاً حتى.
هكذا، تتجه لندن لأن تصير، وفق الكاتب، مدينة مملة، حيث تندر نشاطات الشباب وتجمعات «المختلفين» منهم، من مسيّسين ومثقفين وفنانين و«هيبيز»… ومؤمنين بشتى أنواع الأفكار البديلة.
تبدو المقارنة بين بيروت ولندن كاريكاتورية من حيث المبدأ، نظراً لضخامة الفوارق بين العالمين الأول والثالث ومدنهما ودلالات كل ذلك. لكن المقارنة المقصودة هنا تتصل بتعبير كل من المدينتين عن هويته خلال العقدين الماضيين على أقل تقدير، وبالتغيير الذي يُنتظر أن يطرأ على كل منهما في المدى المنظور.
فخلافاً للندن، لم يُتح لبيروت أن تعبر عن هويتها مع إسدال الستار على حربها الأهلية. أُنجز وسطها التجاري من دون روح وبقصد إعطائها وجهاً استثمارياً فقط، وظل نموها معلقاً على الأحداث السياسية والأمنية التي لم تفارقها للحظة.
لم يوَظف قرب هذا الوسط من جامعتين كبيرتين (الأميركية واللبنانية الأميركية) ومن بعض كليات الجامعة الوطنية (قبل دمجها في مجمع واحد)، من أجل جعلها مدينة ثقافية بامتياز. بل لعله لعب دور الحزام الفاصل بين منطقة حيوية، بطلابها ومقاهيها ومراكزها الثقافية، كـ«الحمرا»، وسائر أرجاء المدينة. وهو، فضلاً عن ذلك، ظل كالجرح الشاهد على الحرب نفسها، يأبى أن يندمل. وبقي ساحة أشباح تشطر العاصمة نصفين، وتجعل من بيروت الشرقية غريبة عن شطرها الغربي وبالعكس، وأخّر تعرّف الجيل الجديد من سكان المنطقتين على القسم الآخر منها بدلاً من أن يسهله.
بيروت، بذلك، لم يُتح لها أن تنمو بشكل طبيعي. ثمة تاريخٌ مبتورٌ لهذه المدينة، سببته الحرب والظروف السياسية والرؤى الاقتصادية حيالها بعد الحرب. لم يُعَد وصل المدينة بماضيها. بل ظلت في المخيلة الجمعية باللونين الأبيض والأسود، ومكثت في مرحلة انتظارية أكثر من عقدين من الزمن، بانتظار أن تستكمل أمسها بحاضر ملوّن.
لكن بيروت اليوم، على ما يبدو، تستعد للقفز فوق هذه المرحلة من دون أن تخوضها حتى. فهي سائرة نحو تحول جذري في هويتها العمرانية والسكانية. وهذه مرحلة انتقالية لن تُختتم بين ليلة وضحاها. لكن ساعة إطلاقها دقت، وثمة من المشاريع المهيأة في الأدراج ما يشي بأن صافرة بداية التحول معلقة على قوانين وعملية إخراج منظمة.
مشروع الإيجارات الجديد، بشكله الحالي، أول ما يدلل على ذلك. وهو، وإن جاء تحت شعار إنصاف الملاك الذين لا يتقاضون حقوقهم من المستأجرين القدامى، إلا أنه يمهد الطريق لابتلاع المدينة من كبار الملاك والمستثمرين، حتى لو حمل شعار رفع الضيم عن صغارهم.
الهدف في مداه الأبعد، تحويل المدينة إلى ورشة كبرى، تطيح بالكثير من هويتها لقاء در مالٍ وفير بسرعة قياسية، ولمصلحة جهات محددة ومحدودة.
أما في ما يخص النتائج، ففضلاً عن الفرز الطبقي وتغيير الشكل، ثمة فرز طائفي تلقائي يُنتظر أن ينتج عن ذلك أيضاً. فمن يترك مكان سكنه، مضطراً، من منطقة مختلطة، كـ«رأس بيروت» مثلاً، سيتجه نحو حي يعبر عن بيئته الطائفية على الأرجح، ما لم يكن ثمة مسهلات تتيح له خلاف ذلك. والتسهيلات هذه غير متوفرة بطبيعة الحال، نظراً لغياب الدولة التام عن تقديم رؤية شاملة للمسألة وترك يد السوق لتتحكم بمسارها، علماً أن «يد السوق» في لبنان، سياسية – اقتصادية – طائفية، وهي أكثر تعقيداً من شبيهتها في أوروبا.
ولأن التغيير في بيروت ينتظر أن يكون سكانياً وعمرانياً ونمط حياةٍ على السواء، ولأن المدينة بُترت عن ماضيها بغير تدرج، يُنتظر أن يكون التغيير أكثر تعسفاً من ذاك الحاصل في مدن أوروبية قُدر لها أن تنمو بشكل طبيعي، ومنها لندن على سبيل المثال، ومنها باريس وجنيف بطبيعة الحال.
بعد عقد من اليوم، ستجهد بيروت للتعرف على نفسها في المرآة على الأرجح. ستخسر قدراً كبيراً من عمقها وتستعيض عنه بعمران حديث. ستختال بين قريناتها القليلات في المشرق، كما تفعل هاويات التجميل بـ«السيليكون» على حساب أنوثة منقوصة، وكما يشتهي بعض أصحاب المال الكثيرِ نساءَهم أن يكُنَّ.
بعد قليل، ستفقد بيروت شيئاً من أنوثتها.
أما المدينة التي قيل إنها ستقوم بعد خلع رداء الحرب العام 1991، فلن تكون. سترحل من دون أن تأتي حتى. وستبقى أسيرة اللونين الأبيض والأسود والصور الفوتوغرافية القديمة.
أهلاً ببيروت على شاكلة دبي!

السابق
المعارضة السورية: نصرالله متخبّط وخسائره تحرجه وجنائز حزبه يومية
التالي
كيف تتخلّص من حروق أواني الطهو؟