احتفاء بشارع مار مخايل وشبابه

المرفأ هنا. هو ذاته الذي بدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر في استقبال السفن الكبيرة المحملة بالبضائع، ليكون نقطة الوصل المنبعثة مجدداً بين الشرق والغرب، ومساهماً في الدور والمعنى لفكرة «لبنان الكبير»، مازال هنا، وإن بدور متضائل إلى حدود الإستيراد والتصدير المحلي دون الإقليمي.

عند تخومه وجواره الملاصق، تحت تلة الأشرفية مباشرة، حيث نشأت «الوكالات» التجارية والمخازن والورش ومكاتب الشركات، وتألّف عمران سكني متصل بالنشاط الإقتصادي الحديث، وواصل بين وسط المدينة والمرفأ، تشكلت منطقة «مار مخايل» وشارعها الرئيسي الطويل الممتد من الجميزة وحتى نهر بيروت (مدخل برج حمود).

هذا الشارع، الذي يشبه الكبسولة الزمنية بطابعه العمراني، تحول في وقت قليل إلى سلسلة طويلة من الحانات والمطاعم على طول أرصفته، وبات نقطة الجذب الأساسية لرواد الليل في بيروت، سهراً ولهواً وخروجاً إلى الفضاء العام ومسرّاته الإحتفالية. ليتسم تحول مار مخايل إلى دوره الجديد هذا، برغبة في تجديد حياة منطقة أصابها تواضع وظائفها الإقتصادية السابقة، وهجرة نسبة لا بأس بها من سكانها القدماء، أو تدهور أحوالهم واستقرارهم على رتابة قديمهم الآفل ببطء.

والظاهر في بيروت، منذ أواخر التسعينات، تلك الصلة المتينة المنعقدة بين الإستثمار في المطاعم والحانات والمقاهي من جهة، وإحياء وترميم وتجديد الأحياء التراثية الطابع والحفاظ على طابعها الهندسي من جهة ثانية، بما يعيد الرونق إليها وبث الحياة فيها وتظهير جماليتها، ومنحها التقدير والإستحسان ونشر ثقافة الإفتتان بهذا الإرث العمراني، كما لو أن أصحاب تلك المطاعم والحانات هم مخططو مدن ومعماريون أصوليون. فهم عدا عن صونهم المعالم التراثية وابتكار وظيفة جديدة لها، تنقذها من الهدم أو من تحولها إلى مجرد آثار أركيولوجية ميتة، فإنهم يعمدون إلى إدخال فنون هندسية وتصاميم ديكور حديثة (وما بعد حداثوية) يغلب عليها طابع الـRetro، والى أسلوب المجاورة والدمج بين عناصر تراثية ومواد حديثة، تميل دوماً للإحتفاء بالعتيق و»الأصيل» وتهويمات الذاكرة وحنينها الغامض. فيبدو السهر هناك ليس فقط انتقالاً من شقاء النهار وأعماله إلى لهو الليل ومتعه، بل هو أيضاً انتقال في الزمن، باستلاب فني وثقافي يعمل على بث الصور المتخيلة لدعة «الماضي الجميل».

بدأ الأمر في شارعي مونو وعبد الوهاب الإنكليزي، حيث تتفاوت الأنماط العمرانية بين طرز أواخر القرن التاسع عشر وستينات القرن العشرين. وتزامنت بداية إحياء هذين الشارعين بالمطعم والحانات مع انطلاقة الإنفتاح بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، بعد طول انقطاع في زمن الحرب. وتكفل هذا الإنفتاح بتأليف حياة اجتماعية جديدة، كان روادها الأبرز طلاب الجامعات ورجال الأعمال الشباب (اليوبيز) والصحافيين وموظفي الشركات الحديثة ونواة الطبقة المتوسطة المنبعثة للتو.. وهؤلاء، سيكون لهم السهم الأبرز في صوغ مجتمع مدني وحركة طلابية سيكونان في طليعة انتفاضة 2005 الإستقلالية.

ومع أن اقتراح «مونو» بدا متماشياً مع مخطط إعادة بناء وسط بيروت، ومع الوجهة السياحية كدور جديد للوسط، إلا أنه اختلف عن ذاك المخطط من الناحية السكنية، إذ عدا عن بقاء القسم الأكبر من سكانه الأصليين، فلم يكن خالياً كما وسط العاصمة، فإنه استقبل سكاناً جدداً هم من الشباب والمتوسطي الحال، ما أتاح له «ترميم» نسيجه الإجتماعي القديم والحميم.

وسرعان ما سيتمدد اقتراح «مونو» نحو شارع تراثي آخر هو «الجميزة»، الذي سيشتعل بليله الدائم من السهر والصخب، ويتفوق على «مونو» في اجتذابه للشباب اليافعين، الذين يميلون إلى الأمكنة المفتوحة والضجيج والإزدحام، لا إلى هدوء الأمكنة المغلقة. هكذا سيتكرس الطابع الجديد لـ»ثقافة الكحول» و»ثقافة المطاعم» الذي سيتعمم حتى إلى حواري دمشق التراثية (ما بعد العام 2000)! وهذا الإقتراح ذاته، سيعيد إحياء شارع الحمرا، خصوصاً بعد العام 2008.

كان «امتلاء» شارع الجميزة سبباً للإندفاع توسعاً نحو امتداده الطبيعي، أي إلى ما بعد شركة الكهرباء، إلى شارع مار مخايل. وهنا سيكون للرصيف مكانة أساسية لتأليف نمط السهر الخاص به. الإجتماع واللقاء وتناول المشروبات والمآكل وتزجية الوقت والإستماع إلى الموسيقى والإحتفاء بالحضور والفرجة واستعراض الذات والإستئناس بالصحبة والوجوه الغريبة والأليفة، وتداول الأحاديث، والشراكة في الضحك والغناء والكلام والنظر.. سيكون علنياً وعمومياً ومكشوفاً في الهواء الطلق، على الرصيف. وربما ساهم قانون منع التدخين في الأماكن العامة المغلقة، في ابتكار هذا النوع من السهر «الرصيفي»، الذي صار في مار مخايل أشبه بالكرنفال الأسبوعي للمدينة.

تكفل هذا التوسع نحو مار مخايل، بانطلاق ورشة عمرانية فيه، إذ أعيد تجميل وترميم وتزويق معظم المباني القديمة، المتنوعة الطرز، والمتفاوتة ما بين المتواضعة والفخمة، مكتسبة ذاك السحر الذي يخيل إلينا أنه «السحر المتوسطي»، الذي غالباً ما تبنته البرجوازية اللبنانية المدينية (المسيحية طبعاً). وهذا ما لا نجده في شارع الحمرا مثلاً، الذي تبدو فيه أمكنة السهر منفصلة عن طابعه العمراني وعن نسيجه السكاني. بل أننا في مار مخايل يخيل إلينا أن ليس هناك عدد من المطاعم والحانات، بل أن الشارع كله عبارة عن «محل» واحد، عن مكان احتفالي واسع ومفتوح.

وإذا كان في التسعينات لـ «مونو» دوره في صوغ نمط حياة، وبالتالي ثقافة اجتماعية سياسية، تنجح في تجاوز «مجتمع الحرب»، وتساهم على نحو قوي في إطلاق ديناميكية مجتمع مدني ناشط إلى حد أن «أجهزة» نظام الوصاية حينها كانت ناشطة فيه أيضاً، رقابة وملاحقة… وكان للجميزة دوره في رسم صورة بيروت السياحية والمزدهرة في الحقبة القصيرة التي انقصفت منذ العام 2008، وللحمرا دوره في تحرير بيروت من آثار غزوة 7 أيار الميليشيوية، فإن لمار مخايل لا شك تأثيراً سنراه في مستقبل قريب على مستقبل العاصمة وصورتها.

السابق
ريفي يطلب التحقيق في الاعتداء على منزل الامين
التالي
عناصر حزب الله يتعرضون لكمائن كثيرة في القلمون