لبنانيون بهويات اجتماعية

دبّت الحمية أخيراً في المجلس النيابي واستنفر في جلسات طويلة سعياً إلى تشريع الموارد للموازنة تغطية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب للمعلمين والموظفين المدنيين والعسكريين. لامست قرارات اللجان النيابية المشتركة وتوصياتها في إقرار الضرائب هيبة المراكز المالية وامتيازاتها من المصارف إلى الملاك العقاريين والمتسلطين على أملاك الدولة العامة البحرية والنهرية. هذا المساس الخجول برفع الضريبة نقطتين على المصارف والغرامة عن خمس سنوات لشاغلي أملاك الدولة أثارت حفيظة جمعية المصارف التي أعلنت التوقف عن العمل ليوم واحد «تحذيراً» من تشريع التوصيات بحجة انعكاسها على الأوضاع الاقتصادية للمودعين والمدينين وضرورة التريّث وعدم التسرّع والحاجة إلى «الدرس» الذي لم يتوقف على مدى ثلاث سنوات.
جمعية المصارف هدّدت بإحجامها عن إقراض الدولة وشراء سندات الخزينة على فرض أنها الطرف المضحّي والخيّر وليس باعتبارها «القطاع الأساسي» الذي حقق أرباحاً خيالية من هذه السندات زمن تدهور أسعار صرف العملة الوطنية مطلع التسعينيات، حيث بلغت الفوائد نسبة تزيد عن الأربعين في المئة، وشكّل ذلك حصة أساسية من ارتفاع الدين العام. وما قيل عن «مناعة القطاع المصرفي وحصانته الممنوحة للاقتصاد اللبناني» جرت ترجمتها وتمت نتائجها في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المأزومة الراهنة. فهذا الحرص على «الأمن الاقتصادي والاجتماعي» لم يظهر خلال مرحلة الفوضى النقدية التي ازدهرت فيها أرباح المصارف، ولم يظهر خلال كل القرارات الحكومية حين كان الأمر يتعلق بتشريع اقتسام موارد الدولة والمواطنين، والانطلاقة العملاقة للجمهورية الثالثة مع أكبر عمليات نهب منظم سلطوي مافيوي ميليشياوي.
على أي حال صارت البلاد بين شاقوفين، وأي جهة يجب إنقاذ سمعتها وصورتها و«مصلحتها العليا»: الطبقة السياسية أم الطبقة المصرفية التجارية؟ لن نبالغ في النظر إلى الاقتراحات الضريبية على أنها في اتجاه عادل.
هي فعلاً إنقاذ لسمعة الأموال في التعامل معها بوصفها معطيات مصرفية شرعية وأرباحاً تزيد أو تنقص. في مكان ما كل الإجراءات لم تقارب سلطة المال هذه التي نشأت عن «امتيازات» قدمتها السلطة السياسية، أو عن مال سياسي صار جزءاً عضوياً من المال التجاري.
هناك شعار مضلّل آخر أطلقته جمعية المصارف عن ضرورة الإصلاح الإداري. وما ألفناه من هذا الشعار الذي ظل يدوي منذ «الطائف» في أكثر من موقع هو المزيد من تحجيم القطاع العام وما يعنيه الجانب الرعائي والخدماتي منه وفي المقدمة التعليم الرسمي والصحة العامة والضمان، ولا يعني فصل الإدارة عن المحسوبية والزبائنية ولا المساءلة والمحاسبة ودولة القانون.
وبمعزل عن هذه المواقف وصرفها في هذا التجاذب الشرس بين المصالح فالإيجابي الأهم أنها معركة اجتماعية لا يمكن الفصل فيها بين من يحكم لبنان سياسياً ومن يحكمه اقتصادياً، ولا بين المتضررين من هذا النظام بالذات لهذه السياسات الاقتصادية والاجتماعية. استطاع اللبنانيون بشكل أو بآخر أن يأخذوا بأيديهم وعلى عاتقهم كمواطنين في حركات سياسية أن ينجزوا مآثر تتعلق بالكرامة الوطنية وأن ينتجوا ثقافة حرة ثرية أو أن يطلقوا مبادرات اقتصادية فردية. أزمة لبنان كانت وما تزال كيف يمكن أن ينشئ اللبنانيون نظاماً أو سلطة في إطار مفهوم الدولة الحديثة تدير شؤونهم المشتركة الاجتماعية والوطنية.
لا بأس أن تخجل الطوائف اليوم وأن تتواضع قليلاً وأن تنكفئ أمام الموجات البشرية المطالبة بالعيش الكريم وبحقوق مسلوبة ومتراكمة في ذمم الفريق الحاكم. لكن هذا الفريق يقوم بوظيفة عضوية وهو يمتص هذا الغضب وهذا التأزم لتدارك تلك المواجهة من أن تتجذر حول طبيعة النظام الاقتصادي الذي يلعب دوراً أساسياً في غياب الولاء الوطني وثقافة المواطنة ويستدعي ليس فقط الاحتجاجات بل وكذلك كل ظواهر العنف الاجتماعي والسياسي. في مسألة «رتب ورواتب الموظفين» نحن أمام جسم نقابي مدني عريض منسجم ومتآلف. كادت الحكومات تحوّله إلى جسم صدامي عنيف. أما الفئات والشرائح والجماعات الريفية والمناطقية والقطاعية الصغيرة التي سبق تجريدها من أدواتها في التنظيم والتجمع فهي التي صدَّرت وتصدِّر إلى البيئة الوطنية كلها ظاهرات العنف المعنوي والمادي.
لعلها خطوة أولى في إعادة تعريف وتعرّف اللبنانيين بأنفسهم وإلى أنفسهم وللطغمة السياسية والمالية الحاكمة بأنهم مواطنون لهم مصالح وهويات ومطالب إنسانية وليسوا مجرد قطعان طائفية.

السابق
فحص لجنوبية: على فتح أن تردّ بمسؤولية بالميّة وميّة
التالي
حزب الله: هل حانت ساعة العودة؟