الموت يأخذ إجازة

«عدت إلى القاهرة وغادر خالي إلى أميركا ومعه جانيت وانقطعت أخباره عني، اسمح لي أن أحدثك عن ابن أخته».
1959، موظف في وزارة الصحة، عرف زملائي أنني ممثل هاو فعرفوني على الأستاذ عبد المنعم رئيس قسم الإجازات، هو ممثل في المسرح القومي دعاني لأحضر عرضا في المسرح القومي، كانت هذه الليلة نقطة تحول في حياتي، العرض كان إعدادا مصريا عن مسرحية إيطالية اسمها «الموت يأخذ إجازة».
كانت المرة الأولى في حياتي التي أشاهد فيها مسرحية أجنبية تقدم بالعربية الفصحى. فكرة المسرحية غريبة، حصل عزرائيل، ملاك الموت على إجازة 24 ساعة ونزل ليقضيها على الأرض بين الناس، طبعا لم ينزل بملابسه الرسمية وشكله المعروف كما يرسمه الرسامون، بل على هيئة شاب وسيم يرتدي ملابس أنيقة، هكذا مرت على الأرض 24 ساعة لم يقبض فيها عزرائيل روح أحد.
نزل ملاك الموت ضيفا على أسرة، فتعرف على شابة جميلة وحدث بينهما ما نسميه الحب من أول نظرة، وهنا بدأ عذابه، من المحتم أن تنتهي هذه العلاقة بعد عدة ساعات، هي لا تعرف أنه هو الموت، ويزداد عذابه عندما تخبره أنها تحبه وستظل تحبه.. ولكنك لا تعرفين من أنا.. فتقول، لتكن ما تكون ومن تكون.. أنا أحبك وعلى استعداد لأن أذهب معك إلى آخر مكان على الأرض. فيقول لها إن مكانه ليس على الأرض، غير أنها تصر على موقفها، هي تحبه.. وعلى استعداد لأن تكون معه في أي مكان على الأرض أو في السماء.
يحاول إثناءها عن عزمها في مشهد رائع وصل فيه الدفراوي ونادية السبع (رحمها الله) إلى القمة في الأداء. وفي النهاية من أجل أن تقتنع، يخلع عن وجهه قناع البشر فيبدو وجه الموت الكئيب.. ولكنها ترحب بأن تذهب معه.. إنه الحب، ليكن حبيبك من يكون وما يكون، المهم أن تحيا معه.
شعرت وأنا أشاهد العرض أن الكتابة للمسرح هي مهنتي الحقيقية التي كنت وما زلت أبحث عنها، فعندما تمارس فنونا كثيرة في مجال الفن، تستولي عليك حيرة شديدة ناتجة من سؤالك لنفسك.. نعم.. أحب التمثيل الكوميدي.. وأقرأ بشغف، وأقول مونولوغات، وأغني، وأقدم فقرات فكاهية من تأليفي، وأكتب خطابات غرامية طويلة لحبيبتي. ولكن من أنا؟.. أو بالتحديد ماذا أنا؟
هذا هو العرض المسرحي الذي أجاب عن سؤالي ووضعني على بداية الطريق. تأثير العرض المسرحي عليّ كان قويا إلى درجة جعلتني أقول لنفسي.. اجهز.. استعد.. أنت كاتب مسرحي لم يكتب بعد وعليه أن يكتب، إذا كان هناك عمل يتسم بكل هذا الجمال وهذه الصنعة الجميلة في مجال التمثيل والمسرح، فلا بد أنه عملك.. هيا. كانت ليلة حاسمة في حياتي.. في تلك الليلة اكتشفت أن العمل الذي أريده مهنة لي من بين فروع الفن جميعا، هو مهنة الكتابة للمسرح.. ليس لأنني أجيدها بل لأنني وبكل صدق لا أعرف عنها شيئا. هكذا بدأت رحلة التعرف على هذا الفن، فن صياغة المسرح الذي أنا على يقين أنني ممتلئ به.. نعم، سأكتب للمسرح، ولكن ما هي فكرة مسرحيتي الأولى، يا لها من حيرة ويا له من عذاب.

السابق
إسرائيل القوية.. ضعيفة!
التالي
إخفاقة بنغازي أخرى