إنكفاء الإسلام السياسيّ وحظوظ الديموقراطيّة

أدّى انكفاء الإسلام السياسيّ الطوعيّ في تونس والقسريّ في مصر عن السلطة، إلى ازدياد الكلام على إخفاق الإسلام السياسيّ السنيّ بصيغته “الإخوانيّة”، بعد أقلّ من عقدَين على ما اعتبره آصف بيات قيامَ مجتمع “ما بعد الإسلام السياسيّ” في إيران (1996).

لقد رأى عالم الاجتماع هذا أنّ الاتّجاهات الاجتماعيّة والسياسيّة في المجتمع الإيرانيّ بعد الخميني، كشفت عن أنّ شرعيّة الإسلام السياسيّ قد استُنفدت لما ينطوي عليه هذا الإسلام من تناقضات داخليّة زادتها حدّة مطالبةُ أوساط الشبيبة والطلاّب والنساء والمثقّفين بالديموقراطيّة والحقوق الفرديّة والتسامح والمساواة بين الرجل والمرأة، مع المحافظة على دور الدين في حقل الأخلاق.
وقد أدّى هذا الواقع إلى تغييرات مهمة في الخطاب الدينيّ الإيرانيّ في بداية التسعينات مهّدت لما يمكن تسميته “الحركة الإصلاحيّة” في نهاية القرن المنصرم. غير أنّ الإسلام السياسيّ الإيرانيّ الذي أعاد خلق نفسه تحت وطأة تناقضاته الداخليّة والتطوّرات المجتمعيّة، لم يتجاوز ما سمّاه الفيلسوف جواد طبطبائي “التناقض الجوهريّ” بين سيادة الشعب (وهذا ما تعنيه لفظة “الجمهوريّة”) وسيادة الله، وبالتالي رجال الدين (وهذا ما تعنيه لفظة “الإسلاميّة”).

ذلك أنّ رجال الدين المصلحين عجزوا عن فهم هذا التناقض وعن إيجاد حلول له (مقابلته مع جريدة Libération بتاريخ 27 تشرين الأوّل 2001). فلا عجب إذًا أن يبقى المشهد الإيرانيّ يرواح بين، من جهة، مساعي إصلاح دينيّ أسير التناقض الجوهريّ وبطش الثيوقراطيّة بكل مَن ينادي بالديموقراطيّة الكاملة، أي تلك الديموقراطيّة، كما يقول طبطبائي، غير المحصورة في حدود الإسلام أو غير المستنتجة من الإسلام، ومن جهة ثانية، قوى تغيير ديموقراطيّ تواجه القمع ولكنّها في الوقت نفسه توقظ النظام على تناقضاته الداخليّة ووهنه في مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة وإخفاق إيديولوجيّته المستندة إلى «أسلمة» المجتمع انطلاقًا من رأس الهرم. وعلى ما يبدو، آلت الصيغة «الإخوانيّة» في الحكم، على نحوٍ ما، إلى مأزق الإسلام السياسيّ الإيرانيّ عينه.

فلا شكّ في أنّ سبب انكفاء الحزبَين الإسلاميَّين اللذين توصّلا إلى السلطة في تونس ومصر في أعقاب ما بات يُسمّى «الربيع العربيّ»، لا يقتصر على قلّة كفاية قادتهما في إدارة الشؤون العامّة ومواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والأمنية الضاغطة فحسب، بل يعود إلى التباس مشروع حكمهما أيضًا، في وقت لم يخفِ فيه الحزبان توجّههما لأسلمة الدولة والمجتمع وفقًا لمدرسة حسن البنّا، مع اختلاف الأساليب من بلد إلى بلد، مظهرَين بذلك عجزهما عن فهم الروح التحرّريّة والديموقراطيّة التي باتت تطبع بعمق أوساطًا شعبيّة مؤثّرة وواسعة، وتجلَّت في الانتفاضات الشعبيّة وإسقاط النظامَين الاستبداديَّين الماضيَين. لذا، فقد تحوّلت بسرعة مبادئُ الحريّات العامّة والخاصّة والمساواة بين الرجل والمرأة ودور الدين في الحقل العامّ مصدرَ نزاع بين الإسلاميّين الممسكين بالحكم والتيّارات اليساريّة والعلمانيّة.

وقد برز التباس خطاب الإسلام السياسيّ في سعي روادّه لفهم المسائل المطروحة ضمن حدود تفسيرهم الإسلام، أو، بكلام آخر، من خلال أولويّة تفسيرهم الإسلام على مبادئ الحريّات والديموقراطيّة. وقد قاربوا تلك المسائل، بوجه خاصّ، انطلاقًا من نظرة شموليّة تهمّش الفرد لمصلحة «الأمّة» بصفتها جماعة مقدّسة ليس أفرادها غير رعايا أو أعضاء، وليس من دورٍ لحريّة اختيارهم. لقد أصبح الإسلام السياسيّ أسير تناقضاته الداخليّة بقدر ما يبيّن عجزه عن فهم روح التغيير في المجتمع والقائمة على انعتاق الفرد من البُنى التقليديّة الاجتماعيّة والدينيّة. غير أنّ السؤال الذي يُطرح في ضوء التطوّرات الأخيرة يتّصل بفرص تقدّم البديل الديموقراطيّ إزاء انكفاء الإسلام السياسيّ في كلٍّ من مصر وتونس.

في مصر، يتّخذ المشهد السياسيّ عشيّة الانتخابات الرئاسيّة منحى دراميًّا بدأ قبيل عزل الرئيس محمد مرسي وإخفاق وساطات الاتّحاد الأوروبيّ والولايات المتّحدة، تواكبه اضطرابات أمنيّة غير مسبوقة في البلاد واستفحال الأزمة الاقتصاديّة. فالتوقيفات الممنهجة تطاول عشرات الألوف من الإخوان المسلمين وعدد من المعارضين الآخرين، في وقت قرّر فيه الإخوان مواجهة السلطة القائمة بالتظاهرات، فضلاً عن قيام بعض المجموعات المنسوبة إلى الجهاديّين بعمليّات تطاول رجال أمن وعسكريّين ومؤسّساتهم، وبوجه خاصّ في سيناء. أمّا القوى الديموقراطيّة وغير الإسلاميّة عمومًا – من يساريّة وليبراليّة وقوميّة – والتي يزيد عدد أحزابها عن الخمسين حزبًا، فلم تستطع أن تشغل المشهد السياسيّ بعد انكفاء الإخوان، بسبب عجزها عن التوحّد على برنامج سياسيّ واضح، وبالتالي عدم إيجادها بديلاً من المؤسّسة العسكريّة لمواجهة خطر الإخوان المستمرّ. وانضّم حزب النور السلفيّ الذي أظهر برغماتيّة لافتة في التعاطي مع تطوّرات الأوضاع المحليّة، إلى مؤيّدي عزل الرئيس مرسي وترشيح المشير عبد الفتّاح السيسيّ، معتبرًا أنّه أفلح في الحفاظ على الشريعة والهويّة الإسلاميَّين في الدستور الجديد، وأنّ ما من بديل في الوقت الحاضر من هذا الدستور ومن الاتّكال على الجيش بصفته العمود الفقريّ لضمان الاستقرار.

ليس من علامات إذًا تشير إلى خريطة طريق ديموقراطيّة في مصر. ويعزّز هذا الاستنتاجَ إعلانُ جماعة الإخوان منظّمةً إرهابيّة، وإصدار قانون قاسٍ مناهض للتظاهر، وتبنّي موادّ غير ديموقراطيّة في الدستور الجديد تقوّي سلطة الجيش على حساب المجتمع المدنيّ وتحافظ على مبادئ الشريعة الإسلاميّة كمصدر رئيسيّ للتشريع، ودعمُ الأنظمة الخليجيّة المحافظة عودةَ العسكر إلى الحكم – دعم تمثّل بتقديم مساعدة ماليّة قدرها 14 مليار دولار ستكون بيد النظام الجديد وسيلة لتثبيت شعبيّته في بلد يرزح فيه 40 في المئة من عدد سكّانه البالغ 95 مليون نسمة تحت خطّ الفقر.
لن يكون هنالك تقدّم ديموقراطيّ في مصر ما دام الجيش يتمتّع دستوريًّا بالقدرة ليكون اللاعب الأقوى على الساحة السياسيّة، وفي ظلّ سياسة تُقصي مكوّنًا سياسيًّا واجتماعيًّا مهمًّا من المجتمع يُقصد به جماعة الإخوان المسلمين، ولا تأخذ طموحات الشبيبة لمشاركة فعّالة في الحياة السياسيّة على محمل الجدّ. وفي المقابل، لن تُفتح سبل الديموقراطيّة من دون أن يكون لجماعة الإخوان الجرأة للقيام بنقد ذاتيّ لنهجها السياسيّ يؤدّي إلى استيعاب معاني انعتاق الفرد في ضوء مبادئ الحداثة، وإلى فصل الدين عن الدولة وتحرير الدين من الصراعات السياسيّة، ومن دون توحّد القوى الديموقراطيّة على برنامج سياسيّ واضح وواقعيّ.

أمّا في تونس فالمشهد يبدو أشدّ تفاؤلاً بالمستقبل الديموقراطيّ بفضل مرونة حزب النهضة وسيادة جوّ التوافق بين قوى المجتمع المدنيّ بعد سلسلة اضطرابات وتظاهرات واعتصامات. ذلك أنّ التوتّر تصاعد بين حزب النهضة الحاكم وخصومه العلمانيّين بسبب تعثِّر الحزب الإسلاميّ في الحكم وتراجع النموّ الاقتصاديّ وتفشّي الانفلات الأمنيّ، فضلاً عن الخلاف على عمل الجمعيّة التأسيسيّة المكلّفة وضع دستور جديد.

وفي أعقاب عزل الرئيس مرسي واغتيال السياسيّ اليساريّ شكري بلعيد، تغيّرت الأوضاع بشكل سريع، ولا سيّما بعد اغتيال سياسيّ يساريّ ثانٍ هو محمّد البراهمي. فقدّم حزب النهضة تنازلات حكوميّة ودخل في حوار مع قوى المجتمع المدنيّ أدّت إلى إصدار دستور جديد في 26 كانون الثاني 2014 يُضفي صبغة مدنيّة على الدولة ويحافظ على ديموقراطيّتها وعلى حقوق المرأة وحريّة التعبير والحريّة الدينيّة، ويضع الدين في إطار يفتح آفاقًا جديدة على تفاعل الإسلام والديموقراطيّة إيجابيًّا.

فبالرغم من أنّ مقدّمة الدستور تنصّ على تمسّك الشعب التونسيّ بتعاليم الإسلام والمادّة الأولى على أنّ الإسلام دين الدولة، فليس ثمّة إشارة إلى دور الشريعة كمصدر للتشريع. إنّ الخبرة التونسيّة تبدو في النهاية الأقرب إلى تحقيق نموذج ديموقراطيّ عربيّ إسلاميّ قابل للحياة.

السابق
بدء التجمّع في ساحة رياض الصلح تلبية للاعتصام
التالي
بدء الجلسة التشريعية لمجلس النواب في يومها الثاني