أفق مسدود

ما زلنا في السياسة نستخدم نصاً لا يشبه الواقع. هناك لغة فيها رائحة الحنين إلى ماضٍ اندثر، وأخرى تخبّئ أهدافها تحت رداء مصطلحات فخمة وهي تقصد أموراً بسيطة من معاني السلطة. هذا الانطباع يشمل كل منتجات الفكر السياسي بأشكال مختلفة من دون استثناء. ربما كانت “اللغة العامية” أكثر صدقاً في الكشف عمّا نفكر فيه من هذه “الفصحى” المثقلة بعبارات لا تؤخذ على ظاهرها. فلا ندري كيف تكون “الثوابت الوطنية” و”المسلّمات الميثاقية” والصفات الجوهرانية للبنان مرجعية أي تفكير ونحن نعيش في مجتمع سائب، ودولة خربة، وحدود ضائعة وسلطات متناحرة، وإقطاعات طائفية متصارعة. هذا الوعاء اللبناني فشل حتى الآن في استيعاب “الكشكول الطائفي” فحوّله إلى “شوربة نور” لا نكهة ولا من يحزنون، ولا رسالة ولا من يرسلون.
على مسافة “سنة كبيس” من مئوية ولادة “لبنان الكبير” نتحدث بلغة تاريخية “سلفية” في السياسة تجاوزتها عوادي الأزمنة والحدثان. فلا مكوّنات الطبخة اللبنانية هي ذاتها اليوم ولا الطبّاخون، ولا مقسّم الأرزاق في الجوار والعالم.
لبنان اليوم عشرون طائفة ليس بينها واحدة ناجية من شهوة السلطة واقتسام قميص المسيح والتلويح بقميص عثمان وتسويق صكوك الغفران. ما نحن فيه انحطاط مريع في الثقافة السياسية التي أنتجتها نخبة ترعرعت في كنف الوصاية من بابها إلى محرابها. لم تكنسها “انتفاضة الاستقلال” ولا “معركة التحرير”. فلا معنى لاستقلال ينقلنا من وصاية إلى وصاية، ولا معنى لتحرير ينقلنا من احتلال إلى احتلال، ولا حرية للأرض في غياب حرية الإنسان.
نفتش في المذكرات والوثائق والبرامج من كل حدب وصوب فلا نجد إلا صورة واحدة للبنانيين كطوائف وجماعات باعتبارها مقصودة في “التعايش المشترك” و”الديموقراطية التوافقية” ودولة “المشاركة والشراكة”. أما هموم جمهور هذه “المحميات” في العيش المستقر والكريم فليست من أولويات هذه الأفكار ولا من مقاصدها.
ولا ننسى أن “وثيقة تفاهم” جرت بين حزبين أو جماعتين سجّلت صراحة “أن المواطن اللبناني لم يبلغ بعد أن يكون قيمة بحد ذاته” وأنه مجرد عضو في جماعة هي الطائفة، فلا سبيل لتطبيق الديموقراطية إلا بصيغتها “التوافقية الطائفية”. نحن لا ننكر هذه الجماعات ولا حقها في حفظ كيانها المعنوي والمادي لكن شرط أن لا تحترب في ما بينها كما يحصل لإلغاء بعضها بعضاً والسيطرة على المجتمع بالقوة في بيئتها وبيئة الآخرين ومنع اللبنانيين من أن يكونوا مواطنين لهم “قيمة بحد ذواتهم” بمعزل عن المصادرة المسبقة لحريتهم وإرادتهم. فإذا كانت هذه الجماعات تريد العيش بحرية مطلقة كما تراها هي لنفسها خالقة هذا الجو من التوتر الدائم وعدم الاستقرار فحريّ بها أن تجد صيغة لهذه “الحرية” والاستقلال من دون أن تلزم الآخرين في هذه الشراكة المستحيلة خارج القواعد والضوابط الدستورية المستقرة. فلا يعقل أن يتحول الدستور إلى صندوق نغم يؤخذ منه ما يطلبه المستمعون. ولا يُعقل أن يصير الدستور والميثاق أدوات تبرير لسلوكيات سياسية راكمت ولا تزال هذا الحجم من الخروقات والتجاوزات والتعطيل. فليس لأحد من أطراف الحكم والأحكام أن يدّعي عفة بعد هذه “الشراكة” الموصوفة في تغطية هذا المسار الطويل من دفع البلاد إلى الفوضى على جميع المستويات. ويبدو من باب الرفاه والترف الدعوة لاحترام الدستور والميثاق لحظة ترزح البلاد تحت وطأة الإرهاب والعنف والتيارات السياسية المسلحة المرتبطة بمشاريع تتخطى الكيانية اللبنانية ولا تقيم لها أي وزن ولا تراعي حقوق الشراكة إذا كانت لا تزال تعترف بشراكة أو إذا كانت لا تكفّر هؤلاء الشركاء. المقلق ليس الطموح المشروع لتعديل صيغة الحكم وتوازناته، ولا تعديل الدستور ولا تغيير النظام، إذا كان ذلك متاحاً بالوسائل الديموقراطية، بل المقلق أن نتوسل الحروب الأهلية لإعادة إنتاج نظام طائفي مأزوم.
ولا ندري كيف يلعب أطراف الطبقة السياسية على حافة الهاوية بينما النزاعات تشعل المنطقة في حريق لا شبكات أمان له. وليس أدل على ذلك من هول المأساة السورية والعراقية واليمنية وما يتأسس في العالمين العربي والإسلامي لحروب تصفية المشتركات وإخماد حركات الشعوب لإعادة إنتاج استبداد وتخلّف وتبعية.
لقد صار الحديث عن علاقة الداخل بالخارج ممجوجاً فاقداً لأي معنى في تبرير سلوكيات الطبقة السياسية. فالخارج الذي يتم استحضاره إلى الداخل هو من دلائل العجز والفشل والتبعية. وهو خارج من ألسنة النار الأهلية وليس عنصراً في توازن سياسي. والمسألة هنا أننا لا نستقوي به لتكوين مشروع سياسي لبناني بل نضع لبنان كله في أتونه المشتعل. إنها الوثنية القديمة والانتحار الجماعي الذي تقودنا إليه هذه الثقافة السياسية.

السابق
عمار حوري: هناك وضعا دقيقا يمر به البلد ولم يعد يحتمل هذا التشاطر
التالي
هل ما زال تفاهم حزب الله والتيار الوطني الحر حاجة لطرفيه؟