الحرب الإقليميّة في «قلب» خطّة طرابلس

قد لا تكون العاصفة “الكسا” هي العاصفة الوحيدة التي ينتظرها لبنان، ذلك أنّ الشتاء اللبناني الذي اشتدَّ منذ اندلاع “الربيع العربي” لا يزال في عزه على رغم التطورات الكبرى التي حصلت في المنطقة. لا بل إنّ هذه المستجدات فاقمت من قساوة المرحلة ولو أنّ هناك مَن يعتقد بأنّ هذه المرحلة الصعبة محكومة بسقف زمني قد لا يتجاوز الصيف المقبل.
وأبرز دليل على ذلك هو الجرح الطرابلسي الذي شهِد تطورات خطيرة خلال الاسبوع الماضي، وصلت الى حدّ اعتلاء مآذن المساجد والدعوة الى الجهاد ضدّ الجيش اللبناني المكلّف تطبيق خطة امنية في عاصمة الشمال.
صحيح أنّه كان للبعض أهداف سياسية تتَّصل بالاستحقاقات الآتية، إن من خلال توريط الجيش في خطة لم تُؤمّن الموافقة السياسية الكاملة لها داخلياً أو حتى خارجياً، أو من خلال توسيع رقعة الصدام وإعطائه بعداً مذهبيّاً شاملاً، إلّا أنّ أساس الازمة اكبر وأعمق بكثير ويتَّصل بالمواجهة الكبيرة الحاصلة في سوريا والتي تتطاحن فيها دول المنطقة وقواها.
وقد بدَت الفجوات واضحة خلال إقرار الخطة في القصر الجمهوري في اجتماع رأسه رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان وشارك فيه نائب طرابلس رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي. فالتكليف الذي حصل شمَل إخضاع كلّ القوى العسكرية والامنية لإمرة الجيش، قبل أن يعود ويظهر استثناء على مستوى فرع المعلومات، وهذا الاستثناء الذي أتى لاحقاً، إنّما جاء إثر اعتراض أكثر من طرف لم يكن حاضراً لقاء بعبدا.

فاستقلالية فرع المعلومات مسألة “مقدّسة” لدى بعض الجهات، وللدلالة فإنّ تيار “المستقبل” لا يتحمّل مثلاً، لا بل تكيَّف مع كل المواقف المتقلّبة لرئيس “جبهة النضال الوطني” النائب وليد جنبلاط، ومنَحه أعذاراً وأسباباً تخفيفيّة، إلّا عندما دعا جنبلاط الى وضع فرع المعلومات تحت إشراف الجيش، عندها كان الرد عنيفاً مع الذهاب الى قطع كل انواع العلاقات والتواصل بين “المستقبل” والحزب التقدمي الاشتراكي.وطالما أنّ الاستثناءات نخَرَت خطة طرابلس، فالاستنتاج يأتي فوراً: لساحة طرابلس وظيفة لم تنتهِ بعد.

وخلال اندفاع الجيش في معالجة الجولة القتالية الأخيرة، رصدت الأوساط الديبلوماسية المراقِبة أنّ الجزء الاكبر من الحركة النارية للجيش كانت في اتجاه مسلّحي جبل محسن، ما أوقع إصابات كثيرة في صفوف العسكريين وأدّى الى تنفيذ اعتقالات واسعة في صفوف المسلحين.

ومع إعطاء الاوامر بالبدء في تنفيذ الخطة الامنية، بدا أنّ هناك استثناء حرصت عليه الاشارات السياسية مُرفقة برسائل ميدانية: عدم الدخول الى عمق باب التبانة. ويبلغ هذا العمق طول كلم واحد حيث المنازل متداخلة. وتردَّد أنّ هذه البقعة يجب أن تبقى خارج مفاعيل ايّ رقابة عسكرية “… ولتكن بمثابة مربّع امني آخر…”.

والسؤال هنا، ألا يكون التنسيق والتكامل بين الجيش وفرع المعلومات لمصلحة الدولة واستقرار المدينة. في العام 2006 مثلاً، وفي عزّ مرحلة “فتح الاسلام”، أطلق فرع المعلومات النارَ على “ابو جندل” وقتله من دون أن تصدر اعتراضات أو ردود فعل. فلماذا لا يحصل اليوم تعاون امني في اطار الخطة الامنية المطروحة حالياً؟

لكنّ الاشارة الاخطر ظهَرت ليل الخميس – الجمعة مع محاولة الجيش إنقاذ فريق تلفزيون “الجديد”، عندما أُطلقت النار مباشرة على ضابط وعنصرين كانا مع الفريق، لتنتشر اثر ذلك العناصر المسلحة في الاحياء الداخلية وتبدأ تظاهرات في اتجاه ثكنة الجيش وسط دعوات الى الجهاد عبر أربعة مساجد. لا بل أكثر، فإنّ مجموعات اخرى تضمّ مسلّحين تحرَّكت في الضنية وبعض مناطق عكار وقطعت الطرق.

الاستنتاج كان واضحاً: ما حصل أظهر بوضوح وجود حركة منظّمة تتبع لقيادة وتُنسّق التحركات وتحمل رسالة واضحة وكبيرة: تمهَّلوا لأننا قادرون على قلب الطاولة على رأس الجميع.

تُدرك الاوساط الديبلوماسية الاوروبية التي تتناقل هذه المعلومات سراً، أنّ عاصمة الشمال تعيش فترة هدنة لن تلبث أن تنهار امام جولة جديدة ستحمل الرقم 19 وقد تكون اعنف من سابقاتها. فالحرب في سوريا مستمرة، لا بل أنها ستعنف اكثر، ولو أنّ سيطرة النظام السوري على منطقة القلمون تجري من خلال خطة القضم.

وفي نهاية المطاف، ستقع معركة محورية تتركز على شلّ قدرة الفريق الآخر، وهو ما سيعني ردوداً في لبنان، إن من خلال جبهات طرابلس المفتوحة، أو من خلال تفجيرات أمنية تصيب عمق بيئة “حزب الله”، او من خلال اغتيالات من خلال انتحاريّين على غرار عملية السفارة الايرانية، أو من خلال التدفق الهائل للمسلّحين الى مناطق عرسال ومنها الى العمق اللبناني.

صحيح أنّ التحضيرات قائمة لانعقاد مؤتمر “جنيف – 2″، إلّا أنّ ذلك لن يعني أبداً تراجعَ المواجهات في هذه المرحلة، لا بل على العكس، وهو ما عبَّر عنه بوضوح وزير الدفاع الاميركي تشاك هاغل المتحمِّس بقوة لخطة تؤدي الى القضاء على “امارة القاعدة” في سوريا، فيما لا تبدو السعودية وكأنّها رضَخت لمبدأ بقاء الرئيس بشار الاسد واعتباره جزءاً من الحل المطروح، وهو ما حرص على إعلانه الامير بند بن سلطان خلال زيارته الثانية لموسكو. لا بل اكثر، فقَد قيل إنّه ردَّد بأنّ الحفاظ على الاستقرار الداخلي في المملكة، يستوجب هزيمة إيران في سوريا.
من أجل كل ذلك، ستكون الأيام المقبلة عاصفة وباردة.
السابق
المحاسبة تلازم الاعتذار
التالي
المشروع الأخير القضاء على «الحر»