«لعبة» الكبار… والصغار

إتفق الجانبان التركي والإيراني على ضرورة وقف إطلاق النار في سوريا، لم يجف حبر هذا الإتفاق حتى وصل الى طهران وزير خارجية دولة الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان ليتحدث عن “الآفاق المستقبليّة والجديدة للعلاقات”، فيما وجّه نظيره الإيراني محمد جواد ظريف أمامه رسالة الى دوَل مجلس التعاون مفادها “إن المنطقة ملك لكلّ دوَلها، وإن السلام والتطور والإزدهار في المنطقة ملك للجميع أيضاً، وأيّ تقدّم لدوَل المنطقة الى الأمام نجاح لنا، وأيّ خطر وتهديد لها خطر علينا”.
وعلى وَقع هذه الرسالة بدأ ظريف جولته الخليجيّة، محطته الرئيسيّة ستكون في الرياض التي عليها أن تفتح الباب أمام الانفتاح، أو تُبقي عليه مقفلاً. مهّد الرئيس باراك أوباما لنتائج مشجّعة خلال اتصاله بالعاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز، لا يمكن الذهاب الى “جنيف – 2” بحسابات قديمة، والنقلة النوعيّة ليست حكراً على طرف، بل مطلوبة من الجميع، لأنها لمصلحة الجميع، وقد انطلق البناء على أساسات جديدة: الإتفاق حول السلاح الكيماوي، إستدراج النظام الى “جنيف – 2” للأخذ منه وليس لتحصين ديكتاتوريته، الإنفتاح ما بين إيران والولايات المتحدة، صفقة البرنامج النووي مع مجموعة الـ 5+1.
وقبل أن يبدأ ظريف جولته، إقترح على أنقرة استعداد بلاده للقيام بوساطة مع دمشق. لم يعرف تحديداً ما إذا كان هذا الطرح مجرّد مبادرة جديدة، أم جزءاً لا يتجزأ من التفاهم الذي تمّ التوصّل اليه خلال المحادثات التي أجراها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في طهران أخيراً؟
في مطلق الحالات يجب أخذ الأمور على سجيتها: بعد تطبيع علاقة إيران مع الغرب، زفّت ساعة التطبيع مع الخليج ودول الجوار في إطار السعي المبرمج لبلوغ “جنيف – 2″ بنجاح. العرض مغر، والفرَص متاحة، وشبّاك التذاكر مفتوح أمام من يرغب، قبل أن ينطلق القطار، مع تحذير ضمني لأولئك الذين يرغبون البقاء خارجه في محطة الإنتظار.
التحذير الأول ورد من المبعوث العربي الدولي الأخضر الإبراهيمي الذي لا يرى فرَصاً للتوصّل الى وقف لإطلاق النار، بل يرى أن الإطلاق سيستمر ويستمر طويلاً في سوريا. تحذيره ليس وليد نزوة، بل نتيجة خبرة، وسعة تعمّق وإطلاع، ليس النزاع بين جيشين محترفين، إنه بين جيش نظامي و”كوكتيل” مسلّح.
ولم يعد النزاع مقتصراً على إسقاط النظام، بل اتخذ أشكالاً مختلفة، أحد عناوينه حركات انفصال، التجربة الكرديّة داخل سوريا ليست مصادفة، ولا هي بالعابرة بل يُبنى عليها، طالما أنّ الجرح المندمِل قد فتح على غاربه، وأصبح وضع الأقليات قضيّة قائمة في حدّ ذاتها، وبدأت تتحوّل قضيّة مركزيّة في المنطقة، نتيجة التجاوزات والارتكابات التي لم تقمع بأسلوب رادع، ووأدها من المهد.
يقول وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس، المعارض الشرس في “جنيف النووي”: “إن تطبيع العلاقات كان ضرورة ملحّة للحدّ من الإرهاب”، لا أحد يتنكر لهذه النظريّة، ولكن لا يستطيع أحد أن يتنبّأ بمدى صحتها وجديتها، لأنّ الإرهاب لم يعد صرعة يمكن ان تنتهي يوماً وتبطل موضتها، بل تحوّل سلاحاً تعتمده دولٌ، وتغذّيه، لكي تستخدمه عند الحاجة لإسماع صوتها، او الدفاع عن مصالحها.
صعوبة التوصّل الى وقف لإطلاق النار في سوريا تنطلق من هذه النقطة بالذات، “جبهة النصرة” غير معنيّة بـ “جنيف – 2″، كذلك “داعش” وتنظيم “القاعدة” لأنّ دولاً تدعم وتموّل ليست لها مصلحة في هذا المؤتمر، أو على الأقل لم تحصل بعد على ما تريد من مكاسب، أو من ضمانات، لكي تساهم في الحل.
وما يجري في طرابلس أصدق برهان، هل هو مجرّد “رسالة احتجاج” على مَن يطلق النار على الأرجُل لتأجيج المذهبيّة والمناطقية في المدينة، وعلى ضفافها، إمتداداً لكّل لبنان؟ هل هو امتداد لمعارك القلمون تحسّباً لِما قد تتركه من تداعيات؟ هل هو توطئة لإخراج “حزب الله” من المعارك في سوريا؟ هل هو تصويب على “جنيف – 2” بهدف اغتياله قبل أن يحبو؟!
إنه في الحقيقة شيء من كلّ هذا، لا بل إنه جملة إعتراضيّة موجعة على التفاهمات التي تمّت، وعلى المناخ الجديد الذي بدأ يبزغ فجره في المنطقة. طرابلس ليست وحدها البريد الساخن، بل لبنان أيضاً. وليست وحدها من يدفع الثمن، فالوطن الصغير أيضاً. وما أشقى الصغار عندما يدخلون لعبة الكبار، خصوصاً إذا كان الزمن زمن التنازلات، لبلوغ التسويات؟!

السابق
من يعطّل الحلول السياسية والأمنية في طرابلس؟
التالي
معيار حسن نوايا ايران عند الخليج بانسحاب حزب الله من سوريا