قوة القصة، سحرها وبريقها الدائم

القصة عنصر خارق الجاذبية في حياتنا الذهنية. العقول العارفة بها تضج بالآلاف منها. منذ الصغر، لا ينام الأطفال إلا على من يقرأ لهم القصص؛ إلا إذا كانت هذه المرحلة من حياتهم نفسها تضجّ بقصص غير مكتوبة، وربما غير مروية، لاحقاً؛ قصص عن الأمور التي يلاقونها في هذا العمر، والتي سوف تُحفر في عقولهم أكثر بكثير مما لو كانت رويت لهم من كتاب مرصوص الحروف أو من ذاكرة راويها، أو مخيلته. الصغار، إذن، ينامون على القصص أو يُفطرون عليها. وفي كل الأحوال، سوف تشكل قصصهم هم واحدة من ركائز شخصيتهم وطبائعهم وأمزجتهم، البائنة منها، أو النائمة في بالهم.
ركيزة أخرى، لا يقل عمرها طولاً؛ هي تلك القصص التي تملأ نصوص الأديان المختلفة، إبراهيمية كانت أم غير إبراهيمية. وكلها تتنافس مع بعضها، وفي ما بينها، على قصص لا تنتهي. قصص حياة الأنبياء، السابقين منهم واللاحقين، قصص المعجزات، قصص الغضب، والغفران، التحليل، التحريم، قصص الآيات التي نزلت… وكلها تقيم صلة مباشرة مع السماء؛ تساندها قصص الواقع التي كونت سياقها كلها؛ وذلك من أجل أن تشبهنا. ومن بين قصص الأديان هذه، يمكننا القول ان القصة “التأسيسية” للبشرية جمعاء بحسب الأديان الإبراهيمية، هي قصة آدام وحواء، التي استحوذت على مخيلة وعقول الفنانين التشكيليين والشعراء والنحاتين والقاصين والمعلقين والشارحين والمستلهَمين والنقاد والمكررين والمحللين النفسيين واللاهوتيين والمجتهدين، ومؤخراً النسويات… كل هؤلاء شغفوا بقصة آدام وحواء، ولا يملون من تكرارها، للخلوص الى ما يهوون.
بعد ذلك يأتيك الإرث الدنيوي من قصص. “ألف ليلة وليلة” في صدراته. وقصتها المعروفة داخل قصصها المتناسلة؛ الملك الدموي شهريار، الذي يأبى إلا قتل عرائسه بعد ليلته الأولى معها. وعروسه الجديدة، شهرزاد، التي تنقذ حياتها برواية القصص، كل ليلة من تلك الألف زائد واحد، لها قصتها. وحظ هذا الكتاب يضاهي حظوظ القصص الدينية؛ بل ربما يتفوق عليها بإنتشاره على مساحة كونية، متجاوزاً الأديان والقوميات والإثنيات؛ وحدها هوليوود أنتجت عشرات الأفلام التي تدور حول قصة واحدة من قصص “ألف ليلة وليلة”، صراحةً أو إقتباساً. تليها، أو تسبقها، الملاحم ببطولاتها الخارقة، المروية شعراً وشفهياً، والأساطير، بآلهتها الأبطال، الذين لا يقلّون إنسانية عن البشر؛ ثم المقامات، النثرية، بأركانها الثلاث (الراوي، البطل، النكتة) وقصائد الغزل بمجرياتها، أو قصائد الهجاء أو الرثاء بما تكشف عن قصص مجيدة أو مخزية… والآن، أكثر الكتب مبيعاً، أكثر الشرائط مشاهدة، هي تلك التي تحتوي على القصص. ولا يهم ساعتها “الأسلوب” أو طبيعة الحبكة أو “أدبية” الراوي؛ المهم أن يكون هناك قصة. طبعاً في يعصرنا الإستهلاكي هذا، صارت القصص تؤكل وتهضم، ومع تسارع وتيرة التسلية، يُطرح طلب جديد على قصة جديدة، بعد انتهاء تلك التي صارت “قديمة”؛ ومن المفضل أن لا تكون مقروءة، بل أن تكون مصوَّرة؛ ومن المثالي ان تتكلم عن الجنس أو الإغراء أو العلاقة بين الجنسين، لأنها لا تتشبّه بغير القصة التأسيسية الأولى بين آدم وحواء، وهي قصة “جنسية” بامتياز. انه العصر الذهبي للقصص، ورثت فيه البشرية أطنانا من القصص، وما زالت على جوعها بها.
خذْ مثلاً: قبل قرن واحد فقط، أو أقل، في بيئات تخلّفت عن الإستهلاك… قرنٌ واحد يفصل بين القصص الرمضانية التي كانت تروى في المقاهي الشعبية، قبل العصر الإستهلاكي، وتلاحظ الفرق: مع حكواتي رمضان، الذي كان يتسبب بأرق جمهوره عندما يتوقف عن السرد، في لحظة حرجة من القصة، يواجه فيها البطل خطراً أكيداً… فيقوم بعض من هذا الجمهور، بعد انتهاء فترة السحور، بطرق باب بيت الحكواتي ليلاً، لعلّهم يعرفون شيئاً عن مصير بطلهم. قصة واحدة يقضونها بين إفطارهم وسحورهم، أو بالأحرى مقطع من قصة. فيما اليوم، قصص الدراما التلفزيونية الرمضانية مثل الفطر، لا يمكن لأي صائم، حتى لو خصص لها صيامه وفطوره وسحوره، بل نومه…. أن يتسلى بجميعها، لأنها أكثر من أن تشاهَد في يوم واحد…
لو توقفتَ قليلا أمام هذا الزحف القصصي، فسوف تلاحظ بأن خارج القصص لا يوجد إلا ما يبعث على الضجر، أي عكس نعمة القصة؛ خذْ التنظير مثلاً، كم هو صعب التحقّق من فهمه بدايةً، خلف لغة عالِمة صعبة غامضة، جامدة، غير مقنعة. نادرة هي التنظيرات الجذابة، غير المستعارة، التي تُنِعم العقل بشيء من التجريد، الضروري، على كل حال، لفهم القصة. خذْ مثلاً آخر، الوصف، الذي يغلب عليه السكون؛ أو القوانين، صاحبة القيود والحيثيات والعقوبات، أو التأمل، الذي يحتاج الى التوقف، وإلا إختلّ، أو الموعظة ودرسها، مع انها تبطن قصصاً… فالتنظيرات والمواعظ والوصف والتأمل والقوانين كلها سلطة مباشرة، سافرة، فظة غالباً؛ وحدهم من تخلصوا من هيمنتها، مع انها مجالهم الحيّ، هم الذين تغريهم فكرة تحويلها الى قصة: قصة هذا القانون أو ذاك، قصة نشأته، تطوره، قصة مخالفيه، قصة العقوبات النازلة بهم الخ.
بوسعنا التوسع، وبلا نهاية، بسحر القصة وجاذبيتها الكونية… مع كل هذه المكانة الاستثنائية، فان القصص التي اخترعناها طوال تاريخنا المكتوب والشفاهي، مقصرّة، لم تنلْ من مجالات بعينها إلا قليلاً. فماذا عن قصص الحيوانات، غير قصص إبن المقفع أو لافونتين، الهادفة الى إيصال فكرة؟ ماذا عن الحبكات التي تعقدها في ما بينها، تلك الحيوانات؟ ماذا عن حيَلها ووجهة غيريزتها، تكتيكاتها، استراتيجياتيها؟ في ما بينهم، وإزاء الحيوانات الأخرى؟ قرأتُ كتاباً واحداً بالعربية من هذا الصنف عنوانه “في فضل الكلاب على بعض لابسي الثياب”، لمحمد بن خلف بن المرزبان (دار الجمل. كُتب في القرن الثاني الهجري)؛ كما يدل عنوانه، مؤلفه متعاطف مع الكلاب ضد البشر؛ جمع فيه كل قصص التي تدلّ على نباهة الكلاب ووفائها، وكلها قصص مثيرة ومضحكة، ولكنها هنا أيضا مقتصرة على علاقة الكلاب بالإنسان، على تحميل الكلاب صفات الإنسان، لا الكلاب أنفسها. رواية هذه المرة، للأميركي بول أوستر، عنوانها “تومبوكتو”، وبطلها كلب، مستر بونز، يتوفى صاحبه، مستر ويلي، الشريد والمصاب بالسل. فيتوه مستر بونز في مدينة بالتيمور بحثاً عن أستاذة صاحبه، فتحدث معه مغامرات… المهم ان مستر بونز يؤمن بعمق بـ”تومبوكتو”، وهي جنة المحظوظين التي يسعى اليها، ليعود فيلتقي بصاحبه… كما الإنسان تماماً، كما يتصوره الإنسان، بما توفر عند خياله من قصص. قصة يترتدي فيها الحيوان، أيضاً، طبائع الإنسان، لا قصة حيوان بطبائع الحيوان وفطرته.
ناقصة أخرى تعانيها قصصنا: إنها خالية من قصص الفيزياء، من قصص معالم كوننا، كوكبنا… بلى بلى… قرأتُ يوماً في صحيفة فرنسية قصة قصيرة عنوانها “قصة البحر المتوسط”؛ مقال مطوَّل يروي كيفية تسرّب المياه تدريجياً من المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق نحو ما كان وادياً سحيقاً، منذ ملايين السنوات. فبدأت المياه في هذا الوادي، وعلى امتداد هذه ملايين السنوات، ترتفع درجات قليلة نحو أعلى مع التدفق المنتظم والقليل، لهذه المياه. ليست قصة جذابة، إلا إذا كانت الحياة الآخذة بالارتفاع كانت بشرية، لا نباتية أو حيوانية أو فيزيائية. الكون اللامتناهي حولنا فيه قصص غير “مستغلة” إلا في قصص الخيال العلمي، حيث الإنسان هو المحور، أيضاً، لا الكواكب والمجرّات والنيازك… مع ان كل دراساتها تعتمد على تاريخها، أي قصتها في الوجود.
ثم هناك القصص غير المروية. فالقصة الواحدة متفرعة عن مئات من القصص التي نسجتها، هي مثل خزان لا ينضب من القصص الفرعية، التي يمكن ان تتحول الى أساسية، لو نُقّب عن محتويات هذا الخزان. في القصص الدينية، أيضاً، الفراغات هائلة؛ وهذا مفهوم، لأن قصص الدين ليست روايات متكاملة. بالمقابل، هناك حيوات بأكملها لا تستحق ان تكون مادة قصة، لأنها رتيبة ومنظمة بمواعيد وطقوس وترتيبات. لا قصص في هذه الحيوات، إلا عندما يقفز بوجهها أمرٌ، يخلق القصة؛ مثل ذاك البطل الذي لا يشوب حياته إلا نظام دقيق، وفجأة تدخل يمامة الى شقته، فتحصل القصة، التي تغير مجرى حياته الروتيني (“الحمامة” للألماني باتريك سوسكند). خذْ مثلا حياً: سلمان رشدي، لولا الفتوى التي صدرت بهدر دمه، لما عاش بعدها حياة مليئة بالقصص المثيرة، دوّنها في كتابه “جوزيف أنطون”؛ كان امضى سنوات من الإختباء والإختفاء والتنقل من بيت الى آخر، من بلد الى آخر، من حماية أمنية الى أخرى… سنوات تضج بالقصص المشوقة؛ وإن كان هو عاشها بالكثير من القنوط، مرغماً. تصور لو عاش كل هذه السنوات طبيعياً، مثله مثل بقية كبار المبدعين، بين محاضرة، أو توقيع، أو مؤتمر، أو تكريم…
ولكن لماذا؟ لماذا الحاجة الى القصص؟
لأن القصة ترسم ديناميكية وسياق. بفضل القصة، تحدس، “أوقات الموت”، حيث لا قصة، لا شيء يستحق أن يُروى. فيكون الفرق بين أوقات القصة وغيرها من الأوقات مثل الفرق بين الحياة والموت. هذا على افتراض ان الأزمان ليست كلها حاملة لقصة، وإلا ما كانت زمناً. من دون القصص لا يوجد زمن ولا تاريخ، ولا تأريخ. السنة الميلادية نفسها هي ثمرة قصة، احتلت مكان تقويم آخر، لا بد أن كانت له قصة، وإلا ما سُجِّل. كذلك السنة الهجرية، والحروب، والهجرات والثورات على أنواعها، الهادئة منها والمتفجرة…. وكلها تدخل في قصة الأفراد، فيخلقون منها قصة ذاك الزمن، أو يحتشدون خلفها، ليرووها بعد ذلك، على انها هي التي صنعتهم على ما هم عليه الآن… قصص يتذكرونها بألم أو فرح، أو حنين، يعودون فيدرجونها في دراما حياتهم…. هكذا، إلى ما لا نهاية، حتى آخر الأزمان. الحاجة الى القصة، الى التاريخ، هي حاجة الإنسان في الوجود؛ من دون القصة، يكون هذا الوجود بلا معنى، حتى لو كانت القصة مأساوية، دموية، تراجيدية…. المهم انه يعيشها، بالأصالة أو الإنابة… ليصنع لنفسه درعاً سميكاً من المعاني، يحميه من فكرة انه راحل، يوماً ما، عن هذا الوجود.

السابق
النبطية: مدينة من خوف.. والسياسة فيها شائعات
التالي
قيادة الجيش نعت الجندي عبد الله عجاج الذي أصيب بطلق ناري في طرابلس