ليالٍ بلا نوم ولا عدل

حسناً فعلت اليان الراهب في فيلمها الأخير، “ليال بلا نوم”، بأن اختارت أسعد الشفتري، المسؤول القواتي السابق، التائب عن جرائم اقترفها خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، تقابله مريم السعيدي، وهي امرأة ذات حيوية وعافية، تبحث عن إبنها الشيوعي المختفي في أولى معارك هذه الحرب. فهي بذلك كسرت ما يشبه الصمت الفني عن واحدة من معضلات لبنان الكبرى بعد الإنتهاء “رسمياً” من تلك الحرب.
جوانب القوة الفنية في الفيلم ليست كثيرة ولسنا معنيين بها، هنا، إلا بقدر ما تعطي لفكرته تجريداً جمالياً عالياً. وهي، أي القوة الفنية، تتمحور حول الفكرة نفسها، فضلاً عن إخراجها. فيما التصوير والسيناريو عانيا قليلاً من التفاوت بين ثرثرة وتكرار، فضلاً عن بعض الحواشي.
ما نودّ هنا مناقشته هو الفكرة نفسها، أي المواجهة بين جلاد سابق، تائب أشدّ التوبة، مع والدة الضحية، المثابرة منذ ثلاثة عقود على البحث عنه حياً أو ميتاً. طبعاً كانت إضافة يمكن وصفها بالثمينة، بأن كشف الفيلم، وبلسان الشفتري، عن وجود مقبرتين جماعيتين (الكرنتينا وكلية العلوم في الجامعة اللبنانية)؛ ما دفع رئيسة “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين”، وداد حلواني، إثر عرض الفيلم في الصالات اللبنانية، الى التصريح بأن لجنتها ستتابع قضية المقبرتين مع محاميها والدولة اللبنانية.
بعد هذه الخطوة المتقدمة، ما زالت الفكرة تنضح بما فيها، مفصحة عن عدم اكتمالها. من الفيلم نفسه، يمكنك استنباطها. فالفيلم لم يدّع شمولاً أو معرفة ناجزة، وهذا خير ما فعله. اختار ضحية من “معسكر”، وضحية من “معسكر” كان وقتها هو الخصم. ولو أراد تغطية نزيهة للحرب ومسؤولياتها، وهذا ربما فوق طاقة فيلم بعينه، كان عليه ان “يختار”، جلاداً من معسكر الضحية وضحية من معسكر الجلاد. من جانب مريم كان هناك جلادون، ومن جانب أسعد كان هناك ضحايا. كان يمكن إيرادهم، ولو سريعاً، بدل الحواشي غير اللازمة. بل أكثر من ذلك: كان يمكن للفيلم ان يختار ضحايا وجلادين من المعسكر نفسه، لتكون الصورة أقرب من العدل والمصالحة، بدل تسهيل توظفيها في التسْييس، الذي لا ينقصنا…
نافرة بدت توبة الشفتري، تكرر نفسها، تؤكد نفسها، تعيد وتزيد… في الفيلم إشارتان ذكيتان، أقرب الى الحدْس، لهذا النفور: الأولى هي تلك الكلمة التي يقولها إبن أسعد عن أبيه، بأنه “يغالي في توبته” بنوع من التهكّم المرير. والإشارة الثانية، اننا طوال الفيلم نشاهد صورة ابن مريم وصور مئات المفقودين والمخطوفين، ضحايا أسعد ونظرائه. بمعنى آخر، يكشف الفيلم هوية جلاد واحد، ويؤكد لنا على وجوه مئات الضحايا وهوياتهم واسمائهم وتواريخ ولاداتهم واختفائهم… الخ. هذا الإختلال الصارخ في الميزان ليس من مسؤولية الفيلم نفسه، إنما مسؤولية المجتمع اللبناني قبل دولته. فعندما يكون التائب عن جرائمه واحداً وحيداً… يصبح كالمهرج الذي حاول ان يكونه في آخر الفيلم ولم يفلح. لأنه كان كمن يشير الى السدّ الشاهق الذي نقف أمامه، والمكوَّن في إنعدام العدل على الجرائم القديمة والجديدة.
المغالاة في توبة الشفتري مثل التعويض عن فرادته ووحدته في بحر الجرائم التي يضطر حتى هو، التائب، ان يسكت علناً عن أعمقها. المحاسبة دورة كاملة، أو شبه مكتملة. لا يحرّك آلتها فرد واحد، مهما كان إيمانه بتوبته. وهو لن يغالي لو لم يكن وحيداً في صحراء الضمائر التي ما زالت نائمة.
تحية لإليان الراهب التي سمحت لنا بالتفكير بأن بحصة واحدة، لفرد عظيم وملتبس، في بحيرة الركود الروحي للضمير، هي نقطة مضيئة في سوادنا الأكثر عظمة.
السابق
جثة المنصوري تعود للفتاة سعاد قصاب
التالي
فيصل كرامي سلم شعيا درعا تكريمياً