في البحث عن لبنان

اختفى لبنان. لم يعد سهلاً الحديث عن سياسته واقتصاده أو أي من شؤونه الراهنة. اضمحل هذا البلد وضاع بين السطور. وتعلق مصيره بما ستسفر عنه حروب وصراعات تدور خارجه.
لا أخبار عن الحكومة الجديدة. لا جديد في التحركات السياسية. الوضع الأمني على حاله من الانفلات «النسبي». الاقتصاد مقيم على ركوده ومؤسسات الدولة تتابع انهيارها البطيء.
وتبدو المسائل المطروحة على التداول اليومي أقرب إلى المهازل منها إلى الحياة السياسية: استعصاء تقاسم الثروة النفطية المكتشفة بين أمراء الطوائف. استمرار الهجوم على الأملاك العامة خصوصاً البحرية منها، بحماية رسمية. القبائل المسلحة على أهبة الاستعداد لكل طارئ. وهذه حالة تُزكّي المنجمين والمشعوذين على أنواعهم وتجعل اليأس مكوناً رئيساً من الهواء الذي يتنفسه اللبنانيون.
لكنها المرة الأولى منذ عقود التي تلتهب فيها المنطقة العربية بالأحداث من دون أن تنتقل نيران الحروب إلى أراضي لبنان. في المقابل، تكمن المفارقة في أن ارتباط البلد بما يدور حوله بات أعمق بأشواط من كل ما شهده من تقلبات في الأعوام السبعين التي مرت منذ استقلاله. لقد أظهرت التغييرات العربية الجارية جذرية ارتباط لبنان بمحيطه أكثر مما فعلت خطابات ومجلدات ومؤتمرات ومعاهدات الأخوة والتعاون.
ولا شاغل للسياسيين اللبنانيين غير الثورة السورية وما قد تحمله وقائعها من تبدلات في الوضع اللبناني. أفواج من «المحللين الاستراتيجيين» ينكبون على قراءة الخرائط ومقالات الصحف الأجنبية ليتبينوا كيف تهب الرياح المقبلة. تصريحات موظف من الدرجة الثالثة في وزارة خارجية أبعد بلد يمكن تصوره تجذب اهتمام «المتابعين» و «الخبراء». فيما يوظف أصحاب الطموح السياسي أزمة اللاجئين السوريين الهائلة الأبعاد لمصالحهم الانتخابية وللعب على أوتار الخوف والعصبيات، فيما تتفاقم مشكلات اللاجئين والمشكلات التي نجمت عن وجودهم غير المنظم في لبنان.
الارتباط الوثيق بين الحالة اللبنانية والوضع في المنطقة، وفي سورية خصوصاً، يجعل من المحال التوصل إلى تسوية داخلية تتجاوز إبقاء الحال على ما هو عليه. بكلمات ثانية، انحدرت مساهمة اللبنانيين في تقرير مصير بلدهم من إدارة الأزمة الوطنية إلى مراقبتها والتفرج عليها تتفاعل أمام أنظارهم.
فلا صفقة كبرى ممكنة بين اللبنانيين اليوم على مستوى اتفاق الطائف. ولا إعادة توزيع للسلطات بين الطوائف في ظل التشنج المخيف السائد. ولا إمكان حتى لجلسة حوار شكلية في القصر الجمهوري في بعبدا ما دام الجميع ينتظر تطورات الخارج ويأتمر بأوامره وضروراته. و «الخارج» المقصود هنا لا يقتصر على دولة أو جهة بعينها، بل على منظومة المصالح المتداخلة التي أفقدت اللبنانيين ما تبقى من استقلال ومن حق في تقرير المصير الذي ينبغي أن يكون بناء على المصلحة الوطنية حصراً.
لا شيء يمكن القيام به ضمن موازين القوى الحالية من دون أن يهدد برد فعل عنيف من طرف متضرر، ظاهر في الصورة أو مستتر. لا إجماع لبنانياً على شيء غير الانتظار والشكوى. لا حياة سياسية. لا إعلام جدياً. التلهي بالسفاسف والصغائر سمة المرحلة. وهذه انتقالية في بلدان «الربيع العربي» نحو المجهول.
عليه تبدو حكومة تصريف الأعمال الظاهرة الأكثر حيوية ونشاطاً في بلاد الاستنقاع والتحلل الهادئ.
لقد تكاثرت المفاجآت حول لبنان إلى الحد الذي أصابته بالشلل الرباعي. فجلس يراقب ويراقب… علّ الظروف تجود عليه بدور ما.

السابق
سليمان يضع 4 ملفات على طاولة رئاسته
التالي
الصراع مع إيران والصراع مع القاعدة