التخوين بعد التكفير

  بعد السكرة، أتتْ الفكرة… بعد نشوة "الجيش والشعب يد واحدة"، ها هم المنتصرون على الإخوان يستعجلون صياغة معاني توليهم للسلطة، يضعون خطوطها العريضة. ولأن القوات المسلحة و"الدولة العميقة"، شركاء الثوار الأقوياء، هم شركاء مضاربون بامتياز، ما كان لهذه الخطوط ان تخرج عن ترسانتهم "الايديولوجية" الموروثة عن العهد البائد؛ والتي أولوا أمر إذاعتها الى الاعلام "المستقل"، رابع القوى الرابحة… وقوام هذه "الأيديولوجيا" غير الجديدة دعامتان، نزعتان: الأولى إجتثاثية، تجاه الإخوان المسلمين، ممْعنة في الإجتثاث؛ تريد ان تقلعهم، أن تنسى وجودهم، ان تبعدهم من نظرها… وبقوة هذا الدفع، تجنح  هذه الأيديولوجيا نحو تحميل الإخوان كل المصائب السابقة، وربما التالية، على أساس "إرث الإخوان الثقيل"… 

النزعة الثانية من هذه الأيديولوجيا لا تستطيع أن تمشي بمفردها؛ هي بحاجة الى الروح الاجتثاثية تلك، القادرة وحدها على انتزاع البشر من تعددهم. هذه الروح تجد ما يملأها بالمعاني في شيء عتيق إسمه الشوفينية: تلك المغالاة   بـ"المصرية"، باسم حب الوطن المصري، أو خلف قناعه غير السميك. "الوطنية المصرية" ورديفتها، "الشعب المصري"، هما السقف الذي تتحرك من تحته كل الكلمات والمواقف والتحليلات والتوكشويات (جمع "توك شو") الآن في مصر؛ على أساس ان الاخوان باتوا من "الخونة"، "الصهاينة"، "المجرمين"، "لا يؤمنون بالوطن". ألم يقُل مهدي عاكف، مرشدهم السابق، في لحظة توتر مع نظام مبارك "طز في مصر"؟
هاتان الدعامتان، الإجتثانية والشوفينية، تلتقيان لتصبّا في مجرى الفرعونية الخالد، المدعوم بالتاريخ السحيق والتسلطية القهرية؛ وهكذا تعود الحياة مجدداً الى مثلث الإستبداد والإستئصال والشوفينية. أولى بشائرها مئات المعتقلين من الإخوان الذين حرموا من حقوقهم القانونية، والباقي على الجرار…
هذا المثلث بعينه يزدهر الآن بعيد سقوط "الاخوان المسلمين" المدوّي: وكان بوسعك ان تلاحظه، بمجرد متابعة الاعلام الفضائي، ومن بعده المكتوب… كيف انتقل هذا الاعلام من لهجة أصحاب الحق المهدور الى  تفرْعُن وتكشير عن الأنياب وإنجرار سريع نحو المثلث الجهنمي… لم يمر اكثر من أربع وعشرين ساعة… حتى صارت الكلمات تتطاير كالشرّر. تخرج "الوطنية المصرية" بألفاظ ولهجات إقصائية؛ كأن ثأرا قديما قد استيقظ، تشحنه عدوانية تغذّت نرجسيتها بالمليونيات، أي على حساب "الشعب"؛ وكان لا بد ان يخرج إعلاميون، يلعبونها مغالاة في "الصراحة"، فيصرخون ما في البواطن من شوفينية قديمة؛ يصرخون كراهيتهم للسوريين والفلسطينيين بأعلى ما تسمعه. ولأن هؤلاء الفلسطينيين والسوريين، القادمين الجدد على مذبح كبش الفداء، بعضهم على علاقة بالسلطة الاخوانية الساقطة، يصبح للشوفينية والاجتثاثية والفرعنة، دافع عميق لكراهيتهم والاستعلاء عليهم ومعايرتهم واذلالهم وتحميلهم كل الأوزار.
 المنتصرون الجدد دائماً يكونوا هكذا، أول ما يفعلونه هو إشهار الفكرة الجديدة، بسرعة، من أجل "الإقناع"، من أجل ترسيخ سلطتهم المكتسبة. لكن المشكلة في مصر ان الفكرة المنطلقة الجديدة الآن، ليست تماما جديدة، كما هي جديدة الاوضاع التي أوجدتها أو خلقتها أو تسببت بإندلاعها. بل هي عودة للقديم، تفسّر نفسها بنفسها: فالذين قاموا بثورتيها الأولى والثانية والمرشحون أن يكونوا قادة الثورة الثالثة،  ليسوا هم الذين سوف يتولون قيادتها، أو المشاركة بهذه القيادة، مشاركة فعلية أقصد. صحيح انهم بمجملهم استنكروا الحملات الشوفينية ضد الفلسطينيين والسوريين؛ ولكنهم لا يملكون الفكرة المتماسكة، المطابقة، الجديدة، رغم نجاحاتهم الإجرائية (حملة "تمرد")؛ بل ان بعضهم منجرّ الى المعركة المثلثة، بقوة الدفع اياها، ربما. وقد يكون ذلك طبيعي، وهم في وسط "فكري" هو خليط من قديم، يبدأ بالفراعنة ثم محمد علي وعبد الناصر، وقديم معاصر، يضم أصوليات يسارية وناصرية وليبرالية، لم تتزحزح قيد انملة عن ثوابتها، تقولها بفخر واعتزاز… 
الذين يستعدون منذ الآن لثورة ثالثة، سوف يحتاجون الى مرايا كثيرة، تضع المسافة اللازمة بينهم شخصياً وبين الثورة التي لا يرونها لشدّة إنغماسهم في بحرها الهائج.
 

 

السابق
النهار: القرار الاوروبي سيؤثر على تشكيل الحكومة
التالي
«اللهم إني صائم» تسخر من «العادات الخاطئة»