سوريا كما عرفها العالم انتهت

لم يُفكّر النظام السوري على مدى أربعين عاماً في ما وصل إليه اليوم. لم يُخطّط لإقامة دولة علوية، ولم يُشد بنى تحية لمثل هذه الدولة، وإن قبضَ على السلاح الإستراتيجي والمخزون النقدي من ضمن ما سيطر عليه من مقدّرات الدولة المركزية وركائزها.

غير أن مجريات العمليات العسكرية ونتائجها تدل بوضوح أكثر فأكثر، إلى أن سوريا تنقسم اليوم إلى ثلاث مناطق رئيسة تُشكل نواة ثلاث دول بدأت تظهر ملامحها:

الأولى: علوية غرباً، وتمتد بين الحدود اللبنانية ودمشق جنوباً حتى حلب شمالاً والساحل غرباً حتى الحدود التركية، مروراً بحوض العاصي والقُصير وحمص.

الثانية: سنّية في الوسط، ويُسيطر عليها مسلّحو المعارضة، وتمتد شرقاً من دمشق وحماه وحلب حتى الحدود مع العراق، مروراً بالرقّة ودير الزور.

الثالثة: كردية شمالاً، وتمتد من حلب غرباً إلى القامشلي شرقاً في محاذاة الحدود التركية – العراقية. وقد بدأ الأكراد عملياً التحضير لوضع دستور لهذه الدولة والدعوة إلى إجراء انتخابات برلمانية على أساسه، خلال ثلاثة أشهر.

هذا المخطّط لم يكن في الحسبان عندما بدأت الحركات الإحتجاجية في سوريا، ولا عندما احتدمت المعارك. ولكن الذي حصل، أن أحداً لم يثبت أنه قادر على الإنتصار عسكرياً، إضافة إلى أن المعارضة أخفقت في تقديم نفسها كصاحبة مشروع دولة، وأنها قادرة على إدارة البلاد ومنع إراقة مزيد من الدماء إنتقاماً، في حال سقوط النظام.

وبما أن لا حلّ عسكرياً في سوريا، ولا رغبة لدى الجانبين في حلّ سياسي، طُرح "حلّ التفتيت" الذي من شأنه أن يُريح اسرائيل إستراتيجياً، ويقتطع من نفوذ إيران إقليمياً، ويُعطي كل طائفة أساسية حكماً ذاتياً.

أما كيف حصل هذا التغيير الكبير في قواعد اللعبة ومتى، فيجب العودة إلى السابع من أيار الماضي، موعد زيارة وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى موسكو واجتماعه التاريخي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث تمّت الصفقة، واتُفق على "سايكس – بيكو" جديد.

دخل كيري إلى الكرملين، وكانت دمشق مطوّقة بنحو أربعين ألف مُقاتل من المعارضة السورية، وكان الجميع يتحدث عن معركة دمشق الكبرى. وبعد عودته إلى واشنطن، خرج الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من مقر قيادته السرّي وسافر إلى طهران متحمّلاً خطراً أمنياً كبيراً على حياته، لتظهر بعد ذلك صورته مع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي الخامنئي، الذي منحه الغطاء الشرعي للمهمة الكبرى التي سيقوم بها لاحقاً.

تحركت قوات "حزب الله" الى الداخل السوري، غير آبهة باعتداء إسرائيلي، وكأن هناك كلمة سرّ دولية – إقليمية مطمْئنة، وبدأ إرسال آلاف المقاتلين الشيعة من العراق إلى سوريا، ونشط جسر جوي لنقل التعزيزات العسكرية واللوجستية من طهران إلى دمشق مروراً بأجواء العراق، فيما كان جسر جوي مماثل من روسيا يُزوّد النظام السوري بما يحتاج إليه لإستعادة الأنفاس.

هنا تبدّلت كل الحسابات. إنقلبت موازين القوى. بدأ النظام السوري يستردّ ما خسره ميدانياً على مدى سنتين. فُتحت جهنم، وأعطيت الأوامر "بلا شفقة ولا رحمة.. ولا أسرى".

بدا أنه ممنوع سقوط أحد الطرفين المتنازعين، كما هو ممنوع إنتصار أي منهما. إتخذت القرارات لمد المعارضة بالسلاح النوعي سريعاً منعاً لانهيارها. وأصبحت المعارك الدائرة في هذه المرحلة، تتركز على حدود هذه الدويلات، وعلى "تطهيرها" ديموغرافياً ومذهبياً.في كل الأحوال، ومهما حصل، فإن سوريا، كما عرفها العالم، انتهت.
 

السابق
لقاء جمع عون ونصرالله
التالي
واشنطن مهتمة بإجراء محادثات «نووية» مباشرة مع طهران