الرقص على انغام الفتنة

 كان احمد الاسير فضيحة سنية. زوالها لا يبرر احساس السنة بالخيبة والاحباط، كما لا يفسر احساس الشيعة بالزهو والنصر. ثمة خط تماس بين ابناء المذهبين اقفل. هو ليس الوحيد ولا الاخير طبعا. ثمة شرارة خبت، لا يجوز ان تنسب الى اي سني، او ان توجه الى اي شيعي..لكنها ترافقت مع اتساع الهوة المذهبية، واتجاه نحو الفتنة، يصعب على الوسيط المسيحي ان يستمر في صده، وفي اداء دور قوة الفصل.

لم يكن كل ما قيل في اسباب بروز ظاهرة الاسير وتحولها الى ميليشيا،خطأ. ولم يكن كل ما كيل من اتهامات الى البيئة السنية بانها تسامحت معه، افتراء ايضا. كان الجمهور السني في غالبيته يعتبر خطاب الاسير ردا موازيا لخطاب شيعي استعلائي واستفزازي. وجرى التعامل مع الظاهرة بصفتها احد برامج التوك شو التلفزيونية التي تثير الضحك والرياء في آن: لكل مذهب خطيبه المفوه. اما ان يطلا معا او ان يصمتا معا.

فات السنة ان التنافس لا يدور على شاشات التلفزيون. وغاب عن بال الشيعة ان الامر لا يعدو كونه ظهورا تلفزيونيا عابرا، كان يمكن لو احسن التعامل معه ، ووضعه في اطاره الصحيح ، ان يؤسس للقاء بين معتدلين من الجانبين، من دون الابتزاز المتبادل، الذي حكم ولا يزال يحكم العلاقة بين القوى الرئيسية من المذهبين.. برغم ايمانهما العميق ان الاسير هو مجرد ورقة محترقة لا تحتمل اي شكل من اشكال المساومة.

في معركة عبرا، وكل المعارك السابقة، كان السنة اقل براعة من الشيعة، في الاداء والسلوك واللغة. سُمح للاسير ان يقول كلاما مذهبيا مشينا، او على الاقل لم يجر عزله وادانته. في الوقت الذي كان الخطيب الشيعي ، اي خطيب، يمسك عن الخطاب المذهبي، لكنه يمارس على ارض الواقع كل ما يسهم في تأجيج ذلك الخطاب.

الان، يصعب اقناع كثيرين من السنة والشيعة على حد سواء ان الاسير كان ظاهرة استثنائية معزولة، لا سيما وان الجانبين اسقطا عليها مظالمهما التاريخية التي استعيدت في السنوات القليلة الماضية بشكل لم يسبق له مثيل.. كما انهما ما زالا في حالة ترقب لظهور الكثير من الحالات المشابهة التي تستدعي الاستمرار في التعبئة المتبادلة، والاستعداد لمواجهات اضافية في بقية المناطق اللبنانية.

التسليم بهذا القدر هو العنوان الرئيسي والوحيد للمرحلة اللبنانية المقبلة، التي استهلت قبل الثورة السورية باعوام وستمضي بعدها لاعوام. احالة الفتنة المذهبية اللبنانية الى سوريا، لسوء الحظ، واهية. فهي موجودة قبل ان يقرر السوريون ان يتذابحوا على طرق ليست كلها دينية. وهي راسخة لان الغالبيتين السنية والشيعية في لبنان ازاحتا في خلال الحرب الاهلية غالبية مسيحية عاقلة، تبدو اليوم، وبرغم بعض مظاهرها الجنونية، اكثر حكمة من مجموع السنة والشيعة، في تقديرها وتعاطيها مع المخاطر التي تحيط بالبلد.

توزيع الادوار اللبنانية بات راسخا: الشيعة والسنة يتقاتلون، والمسيحيون يتوسطون، يتولون مهمة فض الاشتباك بين المتحاربين، وتشكيل قوة حفظ سلام محايدة. هذا بعض مما تشي به تجربة عبرا، ومهمة الجيش التي لم يجتمع حولها السنة والشيعة الا اضطرارا، وفقط بعدما تبين ان الاسير وميليشياه التي لا تتمتع باي غطاء خارجي، ولا حتى باي تواصل جدي مع جبهات القتال السورية، خرقت الخط الاحمر.. في اعتدائها على الوسيط النزيه والاخير، المؤسسة العسكرية، ذات الامرة والقيادة المسيحية.

دافع المسيحيون، بالاجماع، عن انفسهم في معركة عبرا، ضد تطرف سني مفرط، وهم يترقبون اليوم الذي يدافعون فيه عن انفسهم ضد تطرف شيعي مفرط ايضا. لكن هذا الدور لا يمكن ان يظل محصورا في اطاره العسكري، ولا يمكن ان يبقى من دون ثمن سياسي. صحيح ان هجرة المسيحيين زادت في اعقاب احتلال اصحاب العمائم واللحى السنية والشيعية، الساحات والشاشات، في الاونة الاخيرة. غير ان الرهان المسيحي على البقاء ما زال قويا، والامل بالغد ما زال واردا.

الفتنة قدر السنة والشيعة في لبنان وفي كل مكان من هذا العالم. دور المسيحيين اللبنانيين، غير المنخرطين في هذا الصراع الاسلامي التاريخي يكبر يوما بعد يوم، لكنه، للاسف، يبقى محدودا.

 

السابق
نيجيريا تعلن اتهام ثلاثة لبنانيين مرتبطين بحزب الله بالارهاب
التالي
من هو رئيس الحكومة القطرية الجديد