او لن تكون لأحد

لم تكن سورية غرقت في دمها. كانت تشهد احتجاجات سلمية توحي أن رياح «الربيع العربي» لفحتها. استقبل المرشد الإيراني علي خامنئي زائراً عربياً وكان الحديث عن سورية. جملة قاطعة اختصرت الموقف. قال المرشد: «الخيار واضح في سورية. تكون كما كانت أو لن تكون لأحد».

كان الحديث في القاهرة. وكان غرض الرجل الذي أخبرني أن يفسر لي لماذا عبر «حزب الله» الحدود إلى سورية وانخرط في النزاع الدائر هناك. وأضاف: «كشف الجميع أوراقهم. لم يعد هناك مجال للتجميل والمساحيق. إننا في خضم نزاع سني – شيعي. إن الصراع الحالي في سورية وعليها سيحدد مستقبل التوازنات في الإقليم».

قبل ساعات فقط كنت في مكتب شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. لمست قلقاً ظاهراً لديه من اتخاذ النزاع في سورية طابعاً مذهبياً. لمست مرارة لديه من انخراط «حزب الله» فيه مبدداً رصيداً واسعاً حصل عليه يوم كانت صورته صورة حزب يقتصر همه على مواجهة إسرائيل. العتب لا يقتصر على الحزب وحده. لم يحصل شيخ الأزهر على جواب مقنع من زائر اسمه محمود أحمدي نجاد. كان الحوار صريحاً وشفافاً. سأل شيخ الأزهر الزائر عن موقف إيران من البحرين والجزر الإماراتية الثلاث. سأله أيضاً عن الدور الإيراني في العراق وسورية ولبنان واليمن. ولم يتردد أيضاً في سؤاله عن أحوال السنة في إيران نفسها. رد أحمدي نجاد على الأسئلة الصعبة بجواب مبسط يضع السلوك الإيراني برمته في خانة «مقاومة الكيان الصهيوني الغاصب». وكان من الصعب إخفاء سوء التفاهم.

أرغمت خطورة النزاع في سورية كل الدول المعنية على تخطي العبارات الديبلوماسية واضطرتها إلى كشف أوراقها. الرئيس محمد مرسي الذي اعتقد لبعض الوقت أن مصر قادرة على نسج خيوط مع روسيا وإيران للاضطلاع بدور في إيجاد حل في سورية اكتشف صعوبة ذلك بعد تدخل «حزب الله». صعد موقفه من النظام وذهب بعيداً.

غيرت المذبحة الجارية في سورية صور الدول والأدوار وكشفت عمق المشاعر المتناقضة والسياسات المتحاربة والمخاوف القديمة والمستجدة. تغيرت صورة إيران التي كانت تتقدم في الإقليم تحت راية المقاومة والممانعة. إنها تصطدم اليوم بالمشاعر السنية على مستوى المنطقة. حرمها تورطها في الأزمة السورية من هالة وصورة. خسر محور الممانعة حلقته السنية الوحيدة وهي حركة «حماس». أدى هذا التطور أيضاً إلى تغيير صورة «حماس» نفسها ودفعها إلى التموضع في «معسكرها الطبيعي».

التدخل العلني في سورية أدخل تغييراً هائلاً على وضع «حزب الله». وضعه على خط الاشتباك مع السنة في سورية ولبنان والمنطقة. تصرف الحزب على أساس أن المعركة في سورية هي معركة حياة أو موت. تصرف بمنطق «أن سورية تكون كما كانت أو لا تكون لأحد». عززت هذه المجازفة التصدع المتسارع في المؤسسات اللبنانية. ألحقت «الساحة اللبنانية» بـ «الساحة السورية». أضيفت جروح جديدة إلى جروح التاريخ. ثمة من يعتقد أن لبنان نفسه سيعاني من منطق «يكون لنا أو لا يكون لأحد». وهذا يعني تدمير المسرح إذا تعذر الاستئثار به.

أدخلت معركة القصير المنطقة في مرحلة كشف الأوراق. صار على الحكومات أن تتطابق مع المشاعر الملتهبة في الشارع. قرارات التسليح التي اتخذها اجتماع الدوحة تعبر بدورها عن بلوغ النزاع مرحلة اللاعودة. إجراءات دول مجلس التعاون الخليجي ضد داعمي «حزب الله» ومموليه كانت مؤشراً صريحاً. تحولت المعركة في سورية معركة إقليمية ودولية. تتصرف روسيا بمنطق «تكون سورية كما كانت أو لا تكون لأحد». أميركا المترددة الخائفة من «جبهة النصرة» وأخواتها اضطرت في النهاية إلى قبول خيار تسليح المعارضة.

النظام السوري بكر في اعتماد خيار «تكون سورية كما كانت أو لا تكون لأحد». المتشددون في المعارضة يعتمدون خيار تكون سورية كما نريدها أو لا تكون لأحد. معركة بهذه الحدة الداخلية والإقليمية والدولية تنذر بتدمير سورية وتصدير الدمار إلى الحلقات الضعيفة المجاورة. لا يستطيع بلد واحد احتمال هذا القدر من المجازفات وهذا العدد من المجازفين.

السابق
خطأ الأسير.. القاتل
التالي
جريمة موصوفة في عبرا..والجيش سيستأصل الورم الدخيل فيها