حقبةُ القرى الحدودية الشمالية

مرةً جديدةً "يَدوخُ" المسيحيون أمام دينامية سُنّية خارجة عن السيطرة السيادية اللبنانية حتى لو كان الكثير من نخبهم وجمهورهم ليس لديه سوى الذكريات السيئة مع النظام السوري. مثلما "داخوا" سابقا ولا زالوا من انفجار دينامية غير سيادية بل ضد سيادية في الطائفة الشيعية…

جعل الفلسطينيّون وأنصارُهم من المسلمين واليساريين اللبنانيين بعد 1967 حدودَ لبنان الجنوبية مع العدو الإسرائيلي حدودا متوترة وورث "الشيعة" عبر "حزب الله" وأنصاره بين المسلمين واليساريين هذا الوضع فتابعوا الدور نفسه على تلك الحدود إنما مع توظيفات سياسية مختلفة.
منذ اندلاع الثورة السورية قبل عامين إلى اليوم – وعلى الأرجح حتى زمن طويل لاحق – جعل "السُنّة" وأنصارُهم حدودَ لبنان الشمالية (وجزئيا الشرقية) مع "الشقيق" السوري حدودا متوتّرة.
في الحالتين أي بعد 1967 وبعد 2011 كان المسيحيّون، أي تيارهم الأوسع، ضد هذا التوتير.
توتّرُ الحدودِ مع العدو صار له تاريخ طويل ويَغرَق اليوم من حسن الحظ في "إستاتيكو" عميق رغم أنه مهدّدٌ استراتيجياً وليس آنياً- بالانفجار الشامل لأسباب غير لبنانية.
توتّرُ الحدود مع "الشقيق" جديد جدا في السياسة اللبنانية بهذا الشكل الذي يجعل الحدود حيث هناك جماعات سُنّية حدودا صراعية وعسكرية الطابع.
في تاريخ الجمهورية اللبنانية كانت الأنظمة السورية من حسني الزعيم عام 1949 عبر "ثورة" زعيم القوميين السوريين أنطون سعاده إلى حاكم سوريا جمال عبد الناصر عام 1958 إلى عهد صلاح جديد القصير فعهد حافظ الأسد المديد… كان ضخّ التوتّرِ الأمني والعسكري على الحدود الشرقية والشمالية يأتي من الجهة السورية عبر المسلمين والقوميين العرب واليساريين وسط صُراخ الأحزاب المسيحية العالي الاحتجاج حتى وقعت المفارقة الاستثنائية التي استحصل فيها حافظ الأسد على الموافقة الأميركية-عبر هنري كيسنجر- فجعل عُتاةَ أخصامِ سوريا الموارنةَ في لحظة يأس و خوف أمام الفلسطينيين يطلبون النجدة من الجيش السوري الذي دخل هذه المرةَ اليتيمة تحت شعار حماية المسيحيين.
أما اليوم وللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية اللبنانية فإن مصدر ضخّ التوتر بين سوريا ولبنان يأتي من الجهة اللبنانية.
أنا هنا لا أقيّم بل أصِف.
طبعا في الحالة القديمة كما في الحالة الجديدة يستلزم ضخُّ التوتر أن يكون البلد "المضخوخ" إليه في حالة حرب ثورية أو أهلية أو كليهما معا. هكذا سوريا هي اليوم: ثورة شعبية تحوّلت إلى حرب أهلية (يضحكني بل يحزنني المعلّقون الذين لا زالوا يقولون في الصحافة الغربية أن سوريا "على شفير حرب أهلية"!). يملك الوضع السوري كل عناصر الثورة وكل عناصر الحرب الأهلية.
وهكذا هو لبنان: المزاج العام الشعبي والسياسي للطائفة السنية في لبنان "التحق" بالثورة السورية منذ لحظتها الأولى كأنه كان ينتظرها فوضع شعار "لبنان أولا " على الرف – أي غلب الطبع على التطبّع- وانخرط برعاية سعودية وفرنسية عبر طرابلس وعكار في الصراع السوري.
عدا ذلك تفاصيل. بل عدا ذلك "تجليط" (هذه الكلمة العامية التي بتّ- مع الاعتذار- أستخدم "فصاحتَها" كثيرا هذه الأيام).
ومرةً جديدةً "يَدوخُ" المسيحيون أمام دينامية سُنّية خارجة عن السيطرة السيادية اللبنانية حتى لو كان الكثير من نخبهم وجمهورهم ليس لديه سوى الذكريات السيئة مع النظام السوري. مثلما "داخوا" سابقا ولا زالوا من انفجار دينامية غير سيادية بل ضد سيادية في الطائفة الشيعية… الطائفة التي طالما راهنت نخبتهم الحاكمة قبل 1975 على "لبنانيّتها" فإذا بهذه الطائفة بعد تدريب مؤقت على النشاط الميليشياوي المطعّم بالأيديولوجيا العروبية غير السيادية في العهد الفلسطيني… هذه الطائفة الشيعية تكشف عن دينامية سوسيولوجية سياسية منذ حصلت الثورة الإيرانية عام 1979 جعلتها تحت قبضة متتالية ثم متحالفة – محكمة – لـ"حزبين واحد" منذ الثمانينات.
بهذا "ينكشف" الشيعة والسُنّة مرة أخرى من الناحية الكيانية باعتبارهم قوّتين مشدودتين تكوينياً إلى المنطقة العربية والمسلمة الشاسعة المحيطة… أي قوتين غير كيانيّتين ولا دواء في العمق للحالتين إلا بتغيّرِ هذا المحيط؟ وبالتالي ينكشف، من زاوية المصالح الكيانية لـ"لبنان السياسي" ذلك "الخطأ التاريخي" الذي "ارتكبه" المؤسّسون المسيحيون الأوائل بعد الحرب العالمية الأولى في ضم جبل عامل الشيعي، أرض التوتر مع العدو الإسرائيلي، وطرابلس وأريافها المسلمة، أرض التوتر مع "الشقيق" السوري… ضمِّهما للكيان اللبناني.
لا دواء للحالة في الشمال. الحالة التي تستمد حيويتها من دينامية في العالم السُنّي تبدأ في سوريا والعراق ولا تنتهي في منطقة الخليج وشمال إفريقيا. فلنستعدّ لحدود قلقة جدا بل متفجّرة جدا لسنوات مثلما حصل على الحدود الجنوبية التي لم تنته إلى اليوم من القلق والتوتر مع أن "حزب الله" والقوى الإقليمية نجحت في "مأسسة" هذا التوتر أي جعله مؤسسة "هادئة" بين انفجار كبير وآخر ولكن بثمن دائم هو صراع سياسي حاد في العاصمة بيروت من قبل أعداء إيران الكُثر الدوليين والإقليميّين.
ينتقل مركز ثقل الاضطراب العسكري اللبناني منذ عامين إلى الشمال في عملية انفجرت سياسيا بعد 2005.
من كان يتصوّر، غيرُ "الآلهةِ" العالمة بالغيب، أننا في جيلٍ واحد سنشهد وضعا للحدود اللبنانية الشمالية مع سوريا يشبه، باضطرابه، الوضع المديد للحدود اللبنانية مع إسرائيل؟ الحدود الشمالية نفسها التي كانت منذ 1920 إلى أواخر الثلاثينات حدود "دولة العلويين" مع "دولة لبنان الكبير" وبالمعابر الرسمية نفسها خصوصا العريضة والعبودية والتي ستصبح هي نفسها حدود الجمهورية اللبنانية مع الجمهورية السورية من أواخر الثلاثينات إلى اليوم ولا نعرف ماذا ستكون في المستقبل هي وغيرها من الحدود على المساحة الممتدة من بيروت إلى بغداد؟
من كان يتصوّر أن تعبير "القرى الحدودية" الذي طالما ألْهَمَ هذا الجزء من اللبنانيين وأقلق جزءا آخر سيصبح إسم قرى وادي خالد وبعض شواطئ وهضاب عكار في أقصى الشمال على طول النهر الكبير حتى البحر وليس إسمَ قرى جبل عامل في أقصى جنوب الليطاني حتى البحر؟
ومع كل التمنّي بأن يتمكّن الجيش اللبناني من احتواء ما أمكن من هذا التوتّر الشمالي قبل أن يتحوّل إلى جبهة عسكرية كاملة المواصفات، فإنه- مع الأسف – من العَبَثِ انتظارُ الحلِّ من داخل لبنان لأن عكار أصبحت منطقة للدعم الثوري في سوريا من ناحية ومسرح عمليات للمخابرات الدولية والإقليمية من ناحية أخرى مثلما توارثت جنوبَ لبنانَ قوىً فلسطينيّةٌ وإقليمية "غزيرة"؟
عشنا زمنا منذ السبعينات حتى الألفين التقت فيه القضايا الثلاث الاجتماعية والوطنية (فلسطين) والطائفية في عنوان واحد شيعي وجنوبي. الآن تلتقي في زمن الثورة السورية القضايا الاجتماعية والديموقراطية (سوريا) والمذهبية في عنوان واحد سنّي شمالي. بالمنظور الطائفي استثمرت الشيعية السياسية الجديدة طويلا الموضوع الوطني الاجتماعي فانطلقت من الحرمان وحلّقت واستقرت بعد الفراغ الفلسطيني في لبنان على الغصن الوطني. اليوم تستثمر السنّية السياسية البعدَ الديموقراطي للصراع في سوريا على أرضية الحرمان الأكثر فضائحية في الوضع اللبناني الراهن من باب التبانة إلى عكار… لتستقر أين؟ مبكرٌ الجواب لأن الأزمة السورية في "بدايتها" فيما هي تختم "حربَ سَنَتَيْها".

السابق
بـيـروت تـغـلي
التالي
من يمنع ومن يمتنع عن الفتنة