الطائفة المخطوفة..11 أيلول شيعي

عندما أعطى محمد عطا لشركائه إشارة الإنطلاق في عملية خطف الطائرتين الأميركيتين للإصطدام ببرجي التجارة العالمية في نيويورك، لم يأخذ الإذن من الركاب، لم يعلمهم بتغيير
وجهة سفرهم، كما لم يخيرهم بين العدول عن السفر أو الإستمرار في الرحلة. فقد اتخذ الخاطفون القرار في أن تكون هذه الرحلة هي الرقم الأخير في حياة كل منهم.

ركاب الطائرتين، بوجوههم التي تختلف ملامحها، أحلامها، أهدافها، رغباتها ومعتقداتها، كان بينهم مسافرون في الدرجة الأولى، رجال أعمال وخبراء وكبار موظفين، ومنهم من أقلع بحثاً عن الحلم الاميركي، وآخرون عمال بسطاء بأجور متدنية، وبينهم متوسطو الحال والدخل، إضافة إلى أطباء ومعلمين وحرفيين، كما لم تخل الطائرتان من مهاجرين من دول فقيرة، ومسافرين مسلمين، ولاجئين سياسيين، لم يتخيلوا أن رحلتهم في بلاد العم سام، لن تتعدى مدتها من الإقلاع إلى الهبوط أكثر من دقيقة، وفقاً لتوقيت الخاطفين. تاريخياً، لم تقتصر عمليات الخطف، على أفعال أو عمليات قامت بها جماعات أو منظمات ثورية أو إرهابية ضد أشخاص أو مجموعة من الأشخاص، إذ يسجل التاريخ وجود أنظمة خطفت شعوباً بأكملها، وحكام خطفوا دولاً بكل مؤسساتها ومكوناتها وأدواتها .

فقد تمكن الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين، من جر الشعب العراقي إلى ثلاث حروب عبثية، اثنتان منها ضد جيرانه (إيران والكويت)، والأخيرة إلى مواجهة دولية أدت إلى استدراج الأميركي إلى العراق واحتلاله. كان من تداعياتها وضع المنطقة العربية كلها، الخليج بشكل خاص بين فكي كماشة: أميركي يحلم بالسيطرة على منابع النفط، وإيراني يطمح إلى تقاسم أدوار الهيمنة على المنطقة مع الأميركي ذاته.

في سوريا قاد الديكتاتور الأب حافظ الأسد سوريا، إلى حروب سياسية توسعية، ضد جيرانه واستقر على مهادنة اسرائيل. فقد تسبب دخوله لبنان، وفرض وصايته على الحياة السياسية والعامة فيه، مستعيناً بأجهزة مخابراته طوراً وقواته العسكرية طوراً آخر، إلى تراكم النفور والعداء بين الشعبين اللبناني والسوري، حيث حمّل الأول الثاني مسؤولية أفعال نظامه، واعتبره الأداة التي مكّنت الأسد من تخريب لبنان وتدميره أمنياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً.
كما أن الشعب الفلسطيني لم يكن بعيداً عن هذا الشعور تجاه نظام "البعث" في سوريا، خصوصاً بعد الحروب التي خاضها الأسد ضد منظمة التحرير الفلسطينية، ما جعل بعض الفلسطينيين، يعتبرون أن خطر الأسد على قضيتهم، هو في المرتبة الثانية بعد إسرائيل

ومن أكثر النماذج صلافة في مصادرة إرادة الشعوب وخطفها، ما يعانيه الشعب الكوري الشمالي، الذي يعيش تحت وطأة حصار دولي شديد، تقابله قسوة داخلية تحصي على الكوريين أنفاسهم، وتقدمهم جميعاً قرابين على مذبح الزعيم الواحد والحزب الواحد والنظام الواحد.

كذلك يمر الشعب الإيراني حالياً، في ظرف من أصعب الظروف الإجتماعية والإقتصادية منذ قيام الجمهورية الإسلامية، بسبب العقوبات التي يفرضها المجتمع الدولي على نظام بلاده، الذي يتبنى سياسة خارجية مبنية على المواجهة مع المجتمع الدولي، ما عدا بعض الفاسدين والمستبدين، وتبديد ثروات إيران الوطنية على مشروعه النووي العبثي، بينما يرزح الإيرانيون تحت ضغط العقوبات الإقتصادية التي أوصلت بلادهم إلى أعلى مستويات التضخم والبطالة.

مؤخرا، تعاملت بعض وسائل الإعلام العربي وبعض صنّاع الرأي العام مع فضيحة وزير خارجية لبنان عدنان منصور في الجامعة العربية ومطالبته بإعادة نظام البعث إلى الجامعة العربية، على أنها تعبير عن موقف جماعة لبنانية، لا عن موقف الدولة اللبنانية، خصوصاً بعد توضيح رئيس الجمهورية الذي أكد عدم معرفته المسبقة بمضمون خطاب منصور. فقد تجاوز التعامل مع موقف منصور الأحزاب التي يمثلها، ووصل الى حد اعتبار أنه يمثل بالأصل موقف جماعة طائفية تنحاز إلى جانب نظام الأسد لأسباب طائفية، ورأى البعض أن منصور هو وزير خارجية الشيعة أو وزير خارجية الطائفة الأقوى التي تسيطر على الدولة والحكومة في لبنان.

موقف منصور الذي رآه ممثل "حزب الله" في البرلمان اللبناني محمد رعد ، منسجماً مع مواقف الدولة اللبنانية من القضية السورية، وتطبيقاً لقرار "النأي بالنفس"، يضاف إلى رصيد التراكم الخطر الذي فتحه حزب الله لحساب الطائفة الشيعية في لبنان بمشاركته في القتال إلى جانب النظام السوري، والذي يبرره على أنه دفاع عن القرى الشيعية في المناطق الحدودية المشتركة بين البلدين.
فـ"حزب الله" القوي والمتمكن اجتماعياً ثقافياً وإقتصادياً وعسكرياً، والذي تشكل الطائفة الشيعية البيئة الحاضنة لسياساته، يقدم نفسه أنه المدافع الوحيد عن الطائفة الشيعية وعن مكاسبها والحامي لوجودها ومصيرها، نجح في مصادرة هذه الطائفة بطريقتين، بالترغيب أولاً، بعد تعطيل دور الدولة في المناطق الشيعية، وربط دورة انتاجها بمنظومته الإقتصادية الخاصة، وبالتخويف ثانياً، بعد إقناعها بأنها تعيش وسط محيط معاد لها.

ويكون "حزب الله" بذلك سائراً بالطائفة الشيعية، إلى أول تحد مفصلي لها في تاريخها الحديث، وتاريخه هو منذ تأسيسه، ويضعها في مواجهة مستقبل غامض، في حال سقوط نظام البعث الأسدي، بعد أن قام بربط مصالحها بمصالحه وربط هذه المصالح مجتمعة ببقاء الاسد.

وبذلك تكون حال الطائفة الشيعية أشبه بحال الطائرتين المخطوفتين اللتين حلّقتا يوم 11 أيلول في سماء نيويورك، حين حدد قائدها الجديد وجهة سفره الخاصة، دون الرجوع إلى رأي الركاب. فالطائفة الشيعية اختار لها قادتها الجدد الوجهة التي يرغبون هم فيها، مغامرين بكل مقدراتها ومصائر أبنائها، مغلبين مصلحة المحاور وأهدافها على مصلحتها الوطنية وطموحاتها، في مشهد هو أقرب إلى عملية انتحار جماعية، ولو قدر لهذه الطائرة أن تصطدم بأبراج الثورة السورية، سوف يسقط الطرفان في مواجهة دموية، تقضي على كل منهما. ولا هروب من هذا القدر المحتوم إلا إذا تمكن عقلاء الطائفة من إقناع ربان الطائرة بالعدول عن هذا الاصطدام.

السابق
متى يتحوّل الغضب إلى ثورة؟
التالي
لبنان البشَّاري الهوى: صُداع