متى يتحوّل الغضب إلى ثورة؟

للشعوب طاقة محدودة على استيعاب ظلم حكامها. ولشرعية هؤلاء تاريخ صلاحية، قد يُعاد إنتاجها مرات عدة، لكنها ستنفد يوماً ما. ستصل الأمور إلى مكان لا رجوع عنه، خصوصاً مع صعود مشاعر الغضب والاحتقان من الجهاز العصبي إلى الرأس، فتتحوّل إلى فكرة، وربما إلى حركة احتجاج. فالانتقال من الغضب إلى الغضب الثوري ليس تلقائياً. وهذا ما حاول كثيرون تفسيره عبر العالم.

«لماذا هزم الحزب الشيوعي في أوروبا، وتحديداً في ألمانيا وإيطاليا، بعد الحرب العالمية الأولى، علماً أن الظروف المادية التاريخية كانت مؤاتية لاستلامهم السلطة؟»، سأل أنطونيو غرامشي، المفكر الماركسي، في كتابه «كراسات السجن».
لماذا لا ينتفض اللبنانيون على واقعهم المعيشي وارتفاع أسعار السلع الأساسية وتضخم البطالة ووفاة مواطنين على أبواب المستشفيات ودفع فاتورتين كهرباء ومياه وغياب وسائل النقل العام؟ ولم يعيدوا انتخاب الطبقة الحاكمة نفسها التي تستغلهم وتتسبّب بحرمانهم وتهميشهم؟
يستخلص غرامشي من زنزانته أن الطبقة الحاكمة أنتجت طبقة مثقفين، يسميها «الكتلة التاريخية»، استطاعت إقناع الطبقة العاملة حينها بالقيم والأفكار الفاشية. بالنسبة إلى غرامشي، الثورة لن تجد أصولها فقط في التغيرات في القوى الإنتاج في سياق الصراع الطبقي، بل من خلال طبقة مثقفين عضويين خاصة بها، تنشر أفكار «البروليتاريا» وقيمها.
كذلك، الطبقة الحاكمة في لبنان أنتجت «كتلة تاريخية»، تنطق باسم نظام المحاصصة الطائفي، في المدارس والجامعات والإعلام ودور العبادة. في المقابل، مثقفي الطبقات المسحوقة ما زالوا هامشيين، وتأثيرهم محدود. فالسلطة ابتلعت العديد منهم.

«لماذا يثور الناس؟» (why men rebel)، عنوان كتاب تيد روبرت غور في العام 1970، أحد رواد نظرية الحرمان النسبي التي ترتكز على العوامل النفسية والاجتماعية لتفسير الحركة الاحتجاجية.
«هما مين واحنا مين، هما الأمراء والسلاطين، هما المال والحكم معاهم، واحنا فقراء ومحكومين… هم بياكلوا حمام وفراخ واحنا الفول دوّخنا وداخ»، من قصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم التي حوّلها المحتجون إلى هتاف، منذ «انتفاضة الخبز» العام 1970 حتى الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس مبارك.
يرى غور أن السخط الناتج عن الحرمان يتحوّل إلى حركة اجتماعية بسبب الشعور بالحرمان النسبي، مقارنة بتوقعاتهم وبواقع شريحة اجتماعية أخرى، بالإضافة إلى وعي الناس بمشروعية مطالبهم.

كيف اندلعت الاحتجاجات العام 2009 في إيران، في ما يسمى بـ«الثورة الخضراء؟ وماذا حرّك الشارع الأردني للقيام باحتجاجات واسعة العام 2012؟ بغض النظر عن الأسباب العميقة للاحتجاج، المشترك بين الحالتين هو استغلال الغاضبين للفرص السياسية المتاحة. في حالة إيران، اتُهمت الحكومة بتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية؛ وفي الحالة الأردنية، «الفرصة» تمثّلت في قرار الحكومة الأردنية برفع الدعم عن المحروقات.
يفسر سيدني تارو، أحد رواد نظرية الفرصة السياسية، أن الحركات الاجتماعية تتأثر بوجود فرص سياسية تخلق مساحة للمحتجين وتساعد على نشوء حركات احتجاجية. «الفرصة» قد تظهر نتيجة تناقضات داخل الطبقة السياسية، انفتاح النظام السياسي، تغيّر التحالفات السياسية، أو أخطاء ارتكبتها السلطة الحاكمة.

«الحياة كسياسة: كيف يغيّر أناس عاديون الشرق الأوسط؟»، عنوان كتاب الباحث الإيراني آصف بيات العام 2009. يعتبر بيات أن التغيير لا يحصل فقط في إطار حراك جماعي، إنما من خلال «كفاح الناس اليومي»، من خلال ما يسميه بـ«التعديات الهادئة» وهي «أنشطة لا جماعية، لكن مطولة ومباشرة من أفراد وأسر مشتتة للحصول على ضروريات أساسية في حياتهم (كالمأوى والاستهلاك والعمل غير الرسمي) وذلك بأسلوب هادئ، ومتواضع، وغير قانوني».
«التعديات الهادئة» قد تبدأ بفقراء المناطق العشوائية الذين يتهربون عن دفع ضرائبهم، مروراً بنساء إيرانيات يتنكرن لحضور مباراة كرة القدم، ولا تنتهي مع شباب يحتلون شوارع حيوية في مدنهم لبيع بعض المنتجات ويتحدّون الملكيات الفكرية لكبار الشركات من خلال قرصنة الأفلام وأقراص الموسيقى.
«الكفاح اليومي» وفق بيات يكمن بخلق مساحة لنمط حياة وقيم خارجة عن سيطرة الدولة. «تعديات» قد تبدو للبعض بلا معنى وغير منظمة ومتناسقة، لكنها تساهم على المدى البعيد في خلق «مجتمعاً» مستقلاً عن السلطة القمعية وعن القيم الدينية والثقافية المهيمنة.

النظريات تلك حاولت تفسير كيفية نشوء الحركات الاحتجاجية أو الانتفاضات الشعبية. طرح الباحثون أسئلة مختلفة، وانطلقوا من أطر سياسية واجتماعية متباينة، انتقدوا بعضهم واختلفوا على تفسير «الاحتجاج»، كنشاط جماعي منظّم أو ككفاح يوميّ. ركّز بعضهم على الظروف البنيوية، والبعض الآخر أكّد على ضرورة التنظيم ووجود فرص سياسية. ورأى آخرون أن العوامل الموضوعية لا تلعب دوراً إلا بحال وعي الطبقات المسحوقة لمصالحهم ولأسباب حرمانهم واستغلالهم.
لكن، وبغض النظر عن تلك النظريات، وغيرها، الأمر الوحيد الذي لم يكن مادة جدل هي مسألة «الغضب» نفسها. فحين ينفجر الناس سخطاً، يصبح من الصعب احتوائهم.
يُقال إن «الغضب كمعجون الأسنان، من السهل الضغط عليه، ولكن محاولة إعادة المعجون إلى داخل الأنبوب يصبح مستحيلاً». خارج «الأنبوب»، قد يتحوّل الغضب إلى فوضى وعبث حيناً، وقد يُشعل انتفاضات وثورات حيناً آخر، في حال تأطيره سياسياً وتنظيمياً. فكما قالت مناضلة يسارية ألمانية أولريكي ماينهوف: «إذا رمى أحدهم حجراً، يعتبر ذلك جرماً. لكن إذا تم إلقاء ألف حجر، يُصبح عملاً سياسياً».

السابق
سلطة الاسلام الأميركي
التالي
الطائفة المخطوفة..11 أيلول شيعي