واشنطن: العين بصيرة

الأوساط الفكرية ـــ السياسية الأميركية، المدبّرة الخلفية لمواقف «الامبراطورية» وبرامجها، تبدو للزائر المحاور من المنطقة العربية، الآن، أقرب إلى وضع نظيرتها العربية؛ أي تعوزها القدرة على ضبط حركة واقع يتفّلت. باختصار: العين بصيرة واليد قصيرة!
نبدأ بحليفَي الولايات المتحدة الرئيسيَّين في الشرق الأوسط، السعودية وإسرائيل. إنهما حليفان ثقيلا الظل والتجاوب، مؤذيان، مكلفان سياسياً وأمنياً، غير أنهما شران لا بد منهما، ولا مناص من التعاطي معهما بحرص يصل إلى تجريف السياسات الأميركية التي يرى منظّروها اليوم أن «السعودية بلا قيادة» بينما «القيادة الإسرائيلية غير مؤهلة» للتفاعل مع سياق الضرورات التي تفرض على واشنطن استراتيجياتها في المنطقة.
«المجتمع السعودي هو المصدّر الرئيسي للأفكار الإرهابية، والمموّل الرئيسي للإرهابيين الذين تحاربهم الولايات المتحدة». وهي التي تجد نفسها متورّطة في سوريا في مسار مظلم، تراه، ولكن ضعف قدرتها على التدخل يجعلها أسيرة له، تستعين به مضطرة، وتسعى إلى مقاربة ليست لها أدوات ميدانية. لا يفكّر الأميركيون كثيرا بقَطر ودورها، إنها «في وزن الذبابة»، لكن السعودية الكبيرة المعقدة التركيب المجتمعي والسياسي والثقافي، وركيزة السياسات النفطية الأميركية، هي صندوق أفاع ينبغي التعامل معه ـــ رغم اهترائه، بل بسبب هذا الاهتراء ـــ بحذر شديد وصبر واضطرار إلى ازدواجية التحالف مع منبع الإرهاب ومحاربة الإرهابيين، في آن.
المشكلة الأميركية الأكبر تتمثل في الحليف النافذ، إسرائيل التي تهرب من استحقاقات التسوية الفلسطينية نحو التصعيد ضد إيران، ربما نحو الحرب. الولايات المتحدة الخارجة من حربين منهكتين في أفغانستان والعراق، وتعاني من الأزمة الاقتصادية ـــ المالية التي تهدد العالم الرأسمالي كله، بينما يواصل التنين الصيني صعوده، حزمت سياستها نحو إيران بكلمتين: لا حرب، تبدو، مع ذلك، ممكنة جراء الجنون والابتزاز الإسرائيليين. قررت واشنطن، وسيلة واحدة لاحتواء الخطر الإيراني هي العقوبات. وهي لا تنظر إلى القنبلة النووية الإيرانية كخطر جدي. يظل السلاح النووي، بالنسبة للأميركيين والروس والإسرائيليين والإيرانيين الخ، سواء بسواء، خارج الاستخدام الفعلي في الصراعات الإقليمية والدولية. ولا يوجد، إذاً، خطر محدق، بينما يمكن، بالنسبة لواشنطن، تعديل السلوك الإيراني بالعقوبات، أو حتى دفع الإيرانيين إلى ثورة برتقالية. هنا، تلمع فوائد التشدد الوهابي والسلفي الذي من شأنه محاصرة إيران الشيعية بالعداء العربي السني، فتغدو ممارسة المزيد من الضغوط على السعودية باتجاه التحديث، سابقة لأوانها.
لكن العقل الأميركي الذي يتسم بالتجريبية والجزئية، يحاذر من استخدام استراتيجية العداء للشيعة في العراق، حيث قبلت واشنطن، مضطرة، بمعادلة معقّدة من تقاطع النفوذ والمصالح مع إيران، ولكنها كانت، وما تزال، ضرورية للحد من الخسائر السياسية المتتالية في الحرب العراقية. وعلى هذه الخلفية، لا تحظى المشاريع السنية الانفصالية أو التصعيدية نحو مواجهة مذهبية في العراق (عمادها القاعدة)، بتعاطف أميركي. وهو ما ينطبق على لبنان، المطلوب الحفاظ على استقراره الهش، ولكن مع الإبقاء على عناصر توتير محدودة، يمكن استخدامها ضد المقاومة في حينه.
إلى وقت قصير، قرر الأميركيون أنه لا يوجد مفاوض فلسطيني. ويؤكدون، الآن، أنه لا يوجد، لدى الإسرائيليين، مفاوض أيضاً. وبما أن التطورات الإقليمية والدولية تدفع نحو تبلور مصلحة أميركية عاجلة بإنجاز تسوية سياسية بين الطرفين، فربما تكون المقاربة في مبادرة يتم فرضها عليهما. وقد اتضحت، بسرعة، ملامح هذه المبادرة: مطالبة تل أبيب بتقديم «جدول انسحاب زمني مفصّل من الضفة الغربية»، إلى الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لدى زيارته المنطقة في 20 آذار الجاري. سنلاحظ، هنا، أن تعيين حدود الانسحاب، متروكة كلياً للجانب الإسرائيلي الذي طالما رهن انسحابه من الضفة بموافقة الفلسطينيين على الاقتطاعات الاسرائيلية من أراضيهم لمصلحة الاستيطان والأمن. أوباما يطلب من الإسرائيليين تنفيذ انسحابهم وفقاً لخرائطهم بالذات، وسيقوم، من جهته، بفرضها على الفلسطينيين مقابل الدولة التي ستغدو سياقاً واقعياً لـ «صراع ديموقراطي» بين الأطراف الفلسطينية التي سيكون عليها رأب الصدع بين مركزي السلطة في الضفة وغزة، أو القبول بدولتين فلسطينيتين كأمر واقع يفرض على دولة الضفة، ضرورة الكونفدرالية مع الأردن كمخرج وحيد.
بالنسبة للأميركيين الذين استعادوا «القناعة بضرورة استقرار الأردن كأولوية مستقلة»، وتوصلوا إلى تقدير «خطواته الاصلاحية الداخلية وسياساته الخارجية المتزنة»، فإنهم لن يسعوا إلى فرض شيء محدد على عمّان، تاركين تكوّن الحل الكونفدرالي للسياق السياسي الأردني الداخلي، حيث يضغط تيار فلسطيني كبير، مدعوم أميركياً، باتجاه فرض صيغ لحلول أردنية لمشكلة اللاجئين والنازحين وصلة الضفة مع العالم.

السابق
دولنا فاشلة ومعاركنا مستمرة
التالي
قانون لرفع سنّ التقاعد