المعتزّون بسنيّتهم… وأشباههم

هم غاضبون طبعاً.

لا يمكن المعتصمين في ساحة الشهداء الأحد ان يأتوا إلى اعتصامهم مبتسمين بشوشين. ليست هذه عاداتهم. سيبدو كأن أحداً تلاعب بملامحهم كي يهزأ منهم. ولن يصدق أحد أن حملة رايات القاعدة، وحملة هذه اللحى والأفكار الكبيرة، سيأتون إلى وسط المدينة للاستمتاع بلطف بيروت وسعة صدرها وكبر قلبها. ومع أن المدينة لا تجيد نبذ الناس، فسيظلون في غربة عن أنفسهم حتى يعودوا إلى أوطانهم اللبنانية المتفرقة، هناك حيث يجيدون الذوبان والتكاثر على مهل، من دون أن يلفتوا النظر.

غير أنهم، حتى برايات القاعدة وأحلامها، لبنانيون لا يقلّون لبنانية عن أي مواطن آخر يحمل مثلهم، الهوية الكئيبة نفسها. لبنانيون يصغون إلى خطابهم الخاص الذي لا تشوبه كلمة أعجمية، والذي يحتاج أخوانهم في المواطنة إلى خبراء في الترجمة كي يفهموا العديد من المفردات والحكايات التي ترد فيه، لكنهم لن يحتاجوا إلى ترجمة مضمونه لأنه ذاته عند الغالبية من الشعب اللبناني.

زوّار المدينة يوم الأحد، اختلسوا على عادتهم الشعار الأيقوني للشعوب العربية التي نادت باسقاط النظام كأقل واجب في الطريق البعيد إلى الديموقراطية. اختلسوا الشعار وحوّلوه إلى نقيضه. بات االشعب الآن يريد الجهاد. الشعب الذي، وفق رؤية هؤلاء للعالم، هو نسخة طبق الأصل عنهم، جنسيته تافهة مقارنة بشكل لحيته ولون الأسود في علمه. وهو شعب كبير عظيم يلّف الكوكب كلّه، ويوقن أن الديموقراطية في أصلها حرام، وأن الأخرين هم الجحيم وإلى الجحيم. شعب ما زال ينتظر لحظة إعلان الجهاد كل يسل السيوف وينهال بها على عنق الكفر الذي يحكم الأرض، فيقطعه، ويعيد الزمن دفعة واحدة آلاف السنين إلى الوراء.

وزوّار المدينة المؤقتون أمميون وفق مفاهيمهم المعتمة للأممية. لكنهم شديدو اللبنانيّة أيضاً. لبنانيون ولا مفر لهم من لبنانيتهم. لذا فهم أيضاً غاضبون لأن طائفتهم مهزومة ومظلومة، وهم أيضاً يعتزّون بطائفتهم، بسنيّتهم. على أنه يحق لهم أن يفخروا بما شاؤوا، ما دام الزمن زمن البذاءة المديدة التي يعيشها اللبنانيون. ربما نلومهم على تأخرهم مئات السنين عن العصر. نلومهم على رفع راية الشيخ الإرهابي وصحبه في ساحة الشهداء الاشد التصاقاً بصورة لبنان الكيان والتنوع. نلومهم على عدم فهمنا لهم، وعدم فهمهم لنا، لكن لا يمكن لومهم على شعورهم بأنهم ينتمون إلى طائفة مظلومة، وأنهم يعتزون بطائفيتهم.

هذا حال اللبنانيين جميعاً، أو أكثرهم على أقل تقدير. المسيحيون يبحثون في أعماق مخاوفهم عن أسباب لرفع الظلم عنهم، فيسقطون مفردة لبنان من أحاديث رعبهم من الآني والمقبل، هم الذين أمضوا عقوداً في التغني بها، وتسويقها عند من أصروا على تسميته شريكاً، وباتوا يرون فيه الآن غولا يريد التهامهم.

والشيعة يرتدون بعد سنوات الشعور بالقوة إلى هواجس أنهم أقلية مهددة بالذبح. هواجس تجعلهم ينقلبون إلى عكس ما قامت عليه حكايتهم الاصلية من الوقوف إلى جانب الضعيف ضد القوي. هواجس تجعلهم يغلقون كل الابواب عليهم جغرافياً وسياسياً وتاريخياً، ليسكنهم شعور عميق بأنهم في غربة، في صحراء موحشة، ينتظرون المركب الذي يحملهم إلى بر آخر أكثر أماناً. والدروز يعززون حذرهم الدائم من كل ما يحيط بهم، ويرتدون إلى الطائفة بعدما جربوا الوطن ولم يقدم لهم أماناً. أما السنة، فالاحساس بالظلم ليس بعيداً عما عنهم، ومن السهل عليهم تبنيه حتى ولو كان من رافعه لا يختصر صورتهم، ما دام لا بديل للآتين كي يستعيدوا الحقوق كلها بالقوة، قوة السلاح والدين التي لا قوة تضاهيها.

كل الطوائف مظلومة، وكلها، معتدّة بانتمائها إلى ذاتها أولاً واخيراً. وحين يضيق أفق الإنتماء إلى هذ الحد، ويصير كل الباقين اعداء، لا تعود مخجلة اللغة التي تسمي الحرب الاهلية بأسماء وقودها، وأنواعه.

حين لا يخجل اللبنانيون ببلدهم الذي فيه سياسيون يناقشون القانون الارثوذكسي، لن يكون مستهجناً تدهور الخطاب إلى الحد الذي بلغه في ساحة الشهداء الأحد. حين إلى هذه الدرجة يتفكك ما اتفق اللبنانيون على أنه وطنهم، يصير كل الكلام مبرراً.

والسقوط المدوي للبلد لن يقع فجأة. اشارات التدهور تنذر اللبنانيين في كل يوم. لكنهم قدريون. لا يفعلون أي شيء لتدارك الكارثة التي يعزونها إلى أسباب طبيعية أو ما ورائية. وهم لا يحتاجون إلى رايات القاعدة كي يزيدوا سبباً إلى مجموعة أسباب تفكيرهم بالهجرة. أسبابهم صارت تتكاثر بمجرد مرور الوقت، لأنهم في كل لحظة يحدسون بأنهم يعيشون العد العكسي قبل انطلاق حفلة الجنون المقبلة. ويعرفون أن وقتهم ينفد.

السابق
احذر التعليم الإلكتروني
التالي
المرعبي: النظام السوري يجر لبنان الى أتون الحرب السورية